السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

ناجي العلي.. حكاية الدم والشرف

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في فضاء الفن العربي، يبقى ناجي العلي منارةً مشتعلة في ذاكرة كل من آمن بأن للفن رسالةً أسمى من الترفيه والتسلية. هذا الفنان الفلسطيني لم يكن مجرد رسام كاريكاتير عابر، بل كان صوتًا مدويًا في وجه الاحتلال والظلم، وسلاحًا حادًا في معركة البقاء من أجل الحقيقة والعدالة. ناجي العلي لم يرسم فقط، بل كتب بالألوان حكاياتٍ من الدم والشرف، من الصمود والمقاومة، ليظل حيًا في قلوب الملايين حتى بعد أن غُيِّب جسده عن عالمنا في تلك الجريمة الشنيعة التي لا تزال تفتح جراحًا لم تلتئم.، وصف ناجي العلي عبر ريشته عمق المعاناة وقدم سرد بصري مدهش للواقع. مع كل خط وكل لون، استطاع العلي الذي تمر ذكرى رحيله هذه الأيام أن ينسج قصصًا تتجاوز حدود الزمن والمكان، مبتكرًا أعمالًا تنبض بالقوة والجرأة. 

 

البدايات: ولادة الحلم والكوابيس

وُلد ناجي العلي في قرية الشجرة بفلسطين عام 1937، وهي قرية صغيرة تقع بين الناصرة وطبريا. كانت طفولته مشبعة بألوان الحقول وأصوات الطيور، ولكن الاحتلال الصهيوني حول كل شيء إلى النقيض. في عام 1948، اقتُلعت عائلته من أرضها وأُجبرت على الهجرة إلى جنوب لبنان، حيث عاشوا في مخيم عين الحلوة، الذي سيصبح فيما بعد رمزًا للمقاومة، وموطنًا لحنظلة، تلك الشخصية التي ابتكرها ناجي العلي لتحمل هموم اللاجئين وأحلامهم المجهضة.

تجربة اللجوء كانت البداية الحقيقية لتشكيل وعي ناجي العلي الفني والسياسي. في هذا العالم البائس، حيث امتزجت المعاناة اليومية بالشعور القاتل بالظلم، وجد العلي نفسه في مواجهة مباشرة مع واقع لم يختره، لكنه قرر أن يقف أمامه بقلب شجاع وقلمٍ حاد.

نشأته في مخيمات اللجوء كان لها أثر عميق في تشكيل رؤيته للعالم، فقد عايش قسوة الفقر وبؤس الغربة، مما جعله يدرك مبكرًا أن للفن دورًا يتجاوز التسلية، ليصبح أداة مقاومة ووسيلة لإيصال صوت من لا صوت لهم. وكما قال ناجي العلي نفسه: "أرسم لأحرك الناس، وإذا تحركوا فأنا راضٍ". هذا الشعار الذي تبناه طوال حياته المهنية يعكس إيمانه العميق بأن الفن يمكن أن يكون قوة دافعة للتغيير.

 

حنظلة: أيقونة الثورة الصامتة

"حنظلة" ليس مجرد رسم كاريكاتوري، بل هو رمز متعدد الأوجه. هذا الطفل الذي يدير ظهره للعالم، رافعًا يديه خلف رأسه، يعكس حالة من الاستسلام الظاهري ولكنه في الحقيقة يمثل التحدي والصمود في وجه كل ما هو قبيح وغير عادل. ناجي العلي نفسه وصف حنظلة قائلًا: "هو الطفل الذي لن يكبر حتى تعود فلسطين، وسيبقى دائمًا شاهدًا على عصر الخنوع والهزائم".

حنظلة، بملابسه الرثة وقدميه الحافيتين، كان يمثل ضمير الأمة، ضميرًا لا يكبر ولا يتغير، لأنه يحافظ على نقاء قلبه رغم كل شيء. كما قال العلي: "لقد رسمت هذا الطفل ليكون شاهدًا على مأساتنا، فهو لن يكبر إلا عندما تعود فلسطين، ولن يدير وجهه إلا عندما تتحرر الأرض".

كان حنظلة صامتًا، لكنه في نفس الوقت كان يصرخ بما هو أقوى من الكلمات. إنه يمثل الطفل الفلسطيني الذي فقد براءته في خضم الحرب والنزوح، لكنه لم يفقد إرادته في المقاومة. كان حنظلة هو ناجي العلي نفسه، كما كان أيضًا كل طفل فلسطيني وأي شخص يشعر بالظلم في هذا العالم.

حنظلة، تلك الشخصية التي أصبحت رمزًا للأمل الممزوج بالمرارة، كانت تعكس أكثر من مجرد حكاية لجوء. لقد كانت تجسيدًا لروح الشعب الفلسطيني المقاوم، الذي رغم كل ما تعرض له من محن وآلام، لم يفقد يوما عزيمته في استعادة أرضه وحقوقه المسلوبة. وكما قال العلي: "حنظلة ليس شخصية مرسومة، بل هو موقف ورؤية". وبالفعل، فقد أصبح حنظلة رمزًا لكل من يرفض الظلم والاستسلام، ليس فقط في فلسطين، بل في كل مكان يعاني فيه الإنسان من القهر.

 

الكاريكاتير: الفن كوسيلة للثورة

لم تكن رسومات ناجي العلي مجرد لوحات كاريكاتورية تقليدية، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن الرفض التام للظلم والتواطؤ. لم يكن فنه مقتصرًا على السخرية أو النقد البسيط، بل كان صرخة مدوية ضد القهر والفساد، سواء كان ذلك في الداخل الفلسطيني أو في العالم العربي ككل.

كثيرًا ما كانت رسومات العلي تفضح بعض الأنظمة العربية وتكشف تواطؤها مع الاحتلال. لم يكن يتردد في استخدام فنه كوسيلة لمقاومة هذه الأنظمة، والتي غالبًا ما كانت تُظهر الدعم الشكلي للقضية الفلسطينية بينما تساهم في قمع حركات التحرر الفلسطينية. كما قال عنه الشاعر محمود درويش: "كان ناجي العلي يرسم كأنه يكتب قصيدة تمرد لا تهدأ".

كانت رسوماته تعبر عن مأساة اللاجئين، عن الظلم الذي لحق بشعبه، وعن الخيانات التي تعرضوا لها من قِبل أصدقائهم وأعدائهم على حد سواء. "لم أكن رسامًا بقدر ما كنت مقاتلًا"، قالها ناجي العلي مرارًا، وكان يعبر عن موقفه بوضوح في كل رسمة.

في كل لوحة، كان ناجي العلي يسرد حكايات شعبه ومعاناتهم، ويكشف المستور من الخيانات والمؤامرات التي تعرضت لها قضيته. لم تكن رسوماته موجهة فقط للجماهير العربية، بل كانت أيضًا رسالة إلى العالم بأسره، رسالة تقول: "هنا شعب يعاني، هنا وطن مسلوب، هنا قضية لا يجب أن تموت".

لقد شكلت رسومات ناجي العلي جسرًا بين الماضي والحاضر، حيث استطاع من خلالها أن يعيد إحياء ذكريات النكبة وأحداثها المأساوية، وفي الوقت نفسه أن يعكس واقع الشعب الفلسطيني ومعاناته اليومية في ظل الاحتلال. لم يكن العلي مجرد فنان يسجل الأحداث، بل كان يسعى من خلال فنه إلى إحداث تغيير حقيقي في الواقع. كان يؤمن بأن رسوماته قادرة على تحريك الجماهير ودفعهم نحو العمل والمقاومة.

وفي سياق إبداعه الفني، لم يقتصر العلي على تناول القضية الفلسطينية فقط، بل كانت رسوماته تعكس أيضًا قضايا العرب بشكل عام، من المحيط إلى الخليج. كان يدرك أن ما يحدث في فلسطين ليس إلا جزءًا من معاناة أمة بأكملها، وأن الخلاص لا يمكن أن يتحقق إلا بوحدة الصف العربي والتضامن مع القضايا المشتركة.

 

ناجي العلي والجرأة في مواجهة الطغاة

إن الجرأة التي اتسمت بها أعمال ناجي العلي جعلت منه هدفًا لكثير من الأصدقاء قبل الأعداء. حتى الأنظمة العربية، رأت في رسوماته تهديدًا لمصالحها وسلطتها. لم يكن العلي يخشى من التعبير عن رأيه بصراحة، ولم يتردد في نقد السياسات الخاطئة والفساد المستشري في الحكومات العربية. كانت رسوماته تكشف المستور، وتفضح التواطؤ مع الكيان المحتل، وتدعو إلى مقاومة هذا الظلم بكل الأشكال المتاحة.

ما يميز أعمال ناجي العلي هو تلك القدرة الفائقة على التعبير عن الحقيقة بطرق بسيطة ولكنها عميقة في معناها. كانت رسوماته تحمل رسائل واضحة ومباشرة، تصل إلى قلب المشاهد دون الحاجة إلى تفسير أو شرح. هذه البساطة في التعبير كانت سر نجاحه وشعبيته الواسعة بين الجماهير.

لم تكن رسوماته مجرد تعبير عن غضب الشعب الفلسطيني، بل كانت أيضًا تحريضًا على المقاومة والتغيير. كانت تقول للناس: "لا تخافوا من الطغاة، لا تخضعوا للظلم، قاوموا بكل ما لديكم من قوة". لقد كانت رسومات العلي بمثابة سلاح في يد كل من يؤمن بالحرية والعدالة.

ومن خلال فنه، استطاع ناجي العلي أن يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل من كل لوحة تاريخًا حيًا يتحدث عن معاناة شعبه وقضاياه. كانت رسوماته تعكس الأمل والتفاؤل بالمستقبل، رغم كل ما يحمله الحاضر من ظلم وقهر. كان يؤمن بأن النصر قادم لا محالة، وأن الحق سيعود إلى أصحابه مهما طال الزمن.

لقد كانت جرأة العلي في مواجهة الطغاة والظلم سببًا في جعله هدفًا للعديد من التهديدات ومحاولات الاغتيال. لكنه لم يكن يخشى الموت، بل كان يواجهه بشجاعة وإصرار على المضي قدمًا في رسالته. لقد كان يدرك أن حياته في خطر، لكنه كان يؤمن بأن رسوماته ستظل حية بعد رحيله، وستستمر في إيصال رسالته إلى الأجيال القادمة.

 

الفنان في مواجهة الموت

كان من الواضح أن ناجي العلي برسمه للكاريكاتير كان يضع نفسه في مواجهة دائمة مع الخطر. لم تكن رسوماته مجرد خطوط على ورق، بل كانت سكاكين حادة تقطع في جسد الظلم وتفضح التواطؤ، سواء على الصعيدين المحلي والدولي. ونتيجة لذلك، تعرض العلي للعديد من التهديدات من قبل الأنظمة التي لم تتحمل جرأته في فضح ما كان يحدث وراء الكواليس. كان ناجي العلي يدرك أن رسوماته لم تكن مجرد تعبير عن رأي، بل كانت تحريضًا حقيقيًا على التغيير، وهذا ما جعله هدفًا للعديد من الأعداء.

في عام 1987، عندما اغتيل في لندن، كان موته ليس فقط خسارة للفن العربي، بل كان محاولة لإسكات صوت المقاومة. لكنه في الحقيقة، كان موته شهادة على قوة الكلمة والصورة. لقد أثبت العلي أن الفكرة أقوى من الرصاص، وأن الفن يمكن أن يكون أداة ثورية تُغير المجتمعات وتُحيي الأمم. وكما قال الشاعر محمود درويش عن صديقه ناجي: "كان ناجي العلي مناضلًا، فنانًا، وشهيدًا في سبيل قضية عادلة. لقد رحل عنا جسده، ولكن روحه لا تزال تحلق فوق رؤوسنا، تذكرنا بأن الحلم لم يمت".

موته كان صدمة للعالم العربي ولجميع محبي الفن الملتزم بقضايا الأمة. لكن هذا الاغتيال لم ينجح في إسكات صوت العلي؛ بل زاد من قوة رسالته وانتشارها. لقد أصبح العلي رمزًا للشجاعة في وجه القمع، وصار اسمه مرتبطًا بالأمل الذي لا ينكسر.

لقد كانت مواجهة الخطر بالنسبة لناجي العلي جزءًا من حياته اليومية. لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخشى الخيانة والصمت. كانت رسوماته تعبيرًا عن تحديه لكل من حاول قمعه، وكل من ظن أن الرصاص يمكن أن ينهي الفكرة. "لقد حاولوا أن يقتلوني مرات عديدة"، قال العلي ذات مرة، "لكنهم لم يدركوا أنني عندما أضع قلمي على الورق، أخلق حياة جديدة".

كانت رسوماته أكثر من مجرد فن، كانت حربًا ضد النسيان، ضد التواطؤ، وضد الخوف. وعندما سقط، حملت روحه معها قوة الاستمرار، ليبقى حنظلة شاهدًا على الظلم، وراسخًا في ذاكرة كل من يناضل من أجل الحرية والعدالة.

 

ناجي العلي بعد الرحيل

بعد اغتيال ناجي العلي، ترك خلفه إرثًا ثقيلًا يتمثل في أكثر من أربعين ألف رسم كاريكاتوري، كل منها يروي قصة نضال، ويعكس وجعًا من أوجاع الشعب الفلسطيني، وآلام الأمة العربية بشكل عام. لم يكن ناجي العلي فنانًا يرسم لتمضية الوقت أو لتحقيق الشهرة، بل كان صاحب رسالة، وفنه كان الوسيلة التي استخدمها للتعبير عن تلك الرسالة. لقد أصبح تراثه الفني جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية للشعوب العربية.

حنظلة، الذي أصبح رمزًا للأمل والتمرد، لا يزال حيًا في قلوب الملايين، يستمر في الدوران حول العالم، ليذكر الجميع بأن القضية الفلسطينية لا تزال حية، وأن المقاومة لن تتوقف حتى تعود الحقوق إلى أصحابها. لقد أصبح حنظلة أيقونةً للكفاح ضد الظلم في كل مكان، وليس فقط في فلسطين.

أعمال ناجي العلي لم تتوقف عند حدود فلسطين أو العالم العربي، بل عبرت الحدود لتصل إلى كل من يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان. وقد لاقى إرثه الفني اهتمامًا كبيرًا على المستوى الدولي، حيث تمت ترجمة رسوماته إلى العديد من اللغات، وتم عرضها في معارض دولية، تأكيدًا على أن رسالته تجاوزت الجغرافيا والسياسة لتصبح رسالة إنسانية عالمية.

وكما قال عنه الصحفي البريطاني روبرت فيسك: "ناجي العلي كان الصوت الذي لم يكن العالم يريد سماعه، ولكنه الصوت الذي كان يجب أن يسمعه". كان العلي يعبر عن الواقع كما هو، دون تجميل أو تزييف، وهذا ما جعل فنه صادقًا وقويًا في آن واحد.

لا يمكن الحديث عن ناجي العلي دون الإشارة إلى التأثير العميق الذي تركه على جيل كامل من الفنانين العرب. لقد ألهم برسوماته مئات الفنانين الذين تبنوا قضيته واستخدموا فنهم كأداة للمقاومة والتغيير. لقد كان العلي مثالًا للفنان الملتزم الذي يضع قضيته فوق كل اعتبار، ويستخدم موهبته لخدمة شعبه وأمته.

ناجي العلي لم يكن فقط رسام كاريكاتير، بل كان رمزًا للثورة ضد الظلم، فنانًا استخدم قلمه كأقوى سلاح في مواجهة القهر. رحيله لم يكن نهاية لمسيرته، بل كان بداية جديدة لرسالة ستظل حية في كل لوحة رسمها وفي كل فكرة دافع عنها. وكما قال محمود درويش: "ناجي العلي لم يمت، إنه يعيش في كل حنظلة، في كل طفل يرسم طريق الحرية بيديه الصغيرتين".

إن إرث ناجي العلي يظل حاضرًا بقوة في الوجدان العربي، ورسالته تظل منارة لكل من يؤمن بأن الفن يمكن أن يكون سلاحًا في مواجهة الظلم، وأن الكلمة والصورة يمكن أن تهز عروش الطغاة وتدفع الشعوب نحو الحرية. في كل مرة ننظر فيها إلى إحدى رسوماته، نتذكر أن التحدي لم ينتهِ، وأن الحلم لم يمت، وأن حنظلة سيبقى واقفًا، حتى يعود الحق لأصحابه.

لقد نجح ناجي العلي في تحويل الألم إلى قوة، والحزن إلى أمل، واليأس إلى تصميم على الاستمرار. لقد علمنا أن الفن ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة، وأن الفنان ليس مجرد مبدع، بل هو مناضل في ساحة المعركة. كانت حياته قصيرة ولكن أثرها لا يقاس بالسنين، بل بالرسالة التي حملها، وبالإرث الذي تركه خلفه.

في النهاية، يظل ناجي العلي رمزًا للفنان، الذي لم يتخلَ عن مبادئه ولم يتراجع أمام التهديدات. لقد قدم حياته من أجل قضية آمن بها، وترك لنا إرثًا فنيًا وإنسانيًا لا يقدر بثمن. ستظل رسوماته شاهدة على عصر من النضال والمقاومة، وستظل روحه تحلق فوق سماء فلسطين، تذكرنا جميعًا بأن الكفاح من أجل الحرية والعدالة هو الطريق الوحيد لتحقيق النصر.