اسمحوا لي أن أعود معكم بذاكرتي هذه المرة إلى مرحلة دراستي الإعدادية. راجت في ذلك الوقت فكرة Home Teaching كثيرًا في موجة من موجات رواجها الشديدة. عادة تروج هذه الموجات حين تتغير أنظمة الدراسة على فترات متقاربة. تبدأ الأمهات في اختيار ما تريد أن تعطيه لأبنائها. هنا لا يمكنك أن تراهن على شيء إطلاقًا إلا وعي الأم التي تختار هذا النظام. كنت طفلة تنشأ بعيدًا عن أرض الوطن، وكانت أمي مهووسة بخوف عدم الانتماء. استطاعت أن تقدم لي نظامًا دراسيًا منزليًا قائمًا على تلك المنظومة التي تريدها، جلبت لي كتب التاريخ المصري التي يدرسها أقراني في مصر، وعشت التجربة كاملة في ذات سنواتها التدريسية، بل وإن بعض سنوات دراستي خضت فيه ما يشبه الامتحانات على الطريقة المصرية. شجع أمي كثيرًا أنني كنت طفلة تريد تجربة كل شيء، ولا توجد لديها مخاوف من اي شيء. هذا النوع من الأطفال يختبئ الآن خلف شاشة الهاتف المحمول، تتسرب له مخاوف الحركة رغم أنفه. شاشة الكبيوتر كانت تسمح لنا بالحركة لأننا لم نكن نستطيع أن نحملها معنا في كل مكان، كان لها امتياز أن تذهب إليها. حقق لنا هذا حركة حرة منها كثيرًا من الوقت.
كان الجيل الذي يسبقنا يتهمنا بأننا أصبحنا جزءًا من شبكة عالمية ضاعت فيها الهوية، ولكن أمي كانت تحمل جملة آمنت بها "الهوية جوانا". كانت تؤمن أن الهوية أمرًا جينيًا يختفي لكن بشكل مؤقت، لأن الجينات لا يمكن تهذيبها ولا القضاء عليها إلا مؤقتًا. آمنت بالكثير. وآمنت بها بالأكثر. استطاعت أن تجعلني طفلًا يهوى قناعاته ولا يسعى وراء كسر القواعد تمردًا، إذ أن قناعاتي هي حرياتي التي لا يستطيع أحد أن يتدخل في بنائي لها، ولا تطبيقي لها. قرأنا الإنجيل معًا وأنا في التاسعة من عمري، وآمنا أكثر بالإسلام معًا عن قناعات وفكر حر. كانت تؤمن أن الأمور الصحيحة تنبع من العقل الواعي. لذا اعتبرت أن الوعي هو كل ثروتي المهمة، وما زلت.
رأيت بعد ذلك في تجارب سفري ما يشبه ذلك، ففي دول كانت الحرية الجامحة ديدنها –رغم أني لا أرى مبررًا لذلك- وجدت التزامًا قويًا بالعهود والمواعيد، ورأيت ضمانًا لحريتي التي تخالف حرياتهم. تعلمت أنك تستطيع أن توجد لنفسك نظامًا. تذكرت الإمام الشافعي في روعته وهو يرحل من بلد لبلد جامعًا العلم، وكيف كان يجد أن ذاكرته منهجه الذي يسير به في كثير من أحواله، حتى أنه كان يظن أنه سيء الحفظ رغم قوة ذاكرته، وشكى ذلك لأحد أساتذته، وأُثر عنه البيت القائل:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي..
فأرشدني إلى ترك المعاصي..
تأتي الأمور إذن حسب ما تريد أن يكون العالم حولك عليه. تعلم ولا تقتصر على معلم. تعلم ولا تكتفِ بمدرسة. تعلم ولا تنشأ في جماعة واحدة للمتعلمين. تعلم ولا تشبع علمًا. وأنا لا أعني هنا بالعلم "إنك تكون دحيح" لكن أن تعرف. عليك أن تعرف كل ما تنتمي له لكي تستحق أن تنتمي له قبل كل شيء. ثم عليك أن تتعلمم بعد ذلك ما تمر به حتى تكون قدر مررت به فعلًا. لأنك إن لم تعرف فأنت لم تجرب.
آراء حرة
تعلم من ألف مدرسة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق