الجمعة 01 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

حلال العقــد.. قصة قصيرة لأسامة ريان

اللوحة من أعمال الفنانة
اللوحة من أعمال الفنانة التشكيلية جيهان سعودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قالت ابنتي متجهمة "أنت تُربِك الماكينة، فتَشُك فيك وتسحب الكارت أو تدمره"، تواصل تقطيع التورتة، نحتفل بترقيتها إلى منصب مديرة بالبنك، التقط أشقاؤها الخيط "يا بابا الماكينات حساسة هذه الأيام بسبب السرقات" يضحكون بتعليقات "وممكن تصورك، وتشك أنك رئيس عصابة"، يواصلون الضحك، وهي تغمغم، أعرف تعليقاتها "أنتم كان مالكم بمكينات الصرف، كل يوم تربكوا الشغل في البنك". أغاظوني، فقلت لها أسخر "طيب مقر عملك الجديد في وسط البلد، عارفة مكانه ؟" تركت السكين ونظرت إلينا "وصلت له بصعوبة بمساعدة الخريطة، لكنه فعلا صعب وزحام فظيع"، التفتُ اليهم وقد دب فيْ نشاط الجدال "أنتم لا تعرفون شيئا عن وسط البلد، روح قاهرتنا وثقافتها، السينمات الفخمة والمسارح والمحلات الشهيرة والمكتبات، لأنكم جيل المولات في أطراف القاهرة"، ينظرون إليّ بدهشة، علّقت هي بينما توزع الأطباق "عموما نتقابل في وسط البلد قرب البنك في المكان اللي أنت عارفه، ولا تقلق ها أتابعك على الموبايل"، تناولتْ موبايلي من يدي، تعابثه ثم ناولتني إياه "كده ها أجيبك لو في المريخ" . شكرتها وأنا أفحص الموبايل، ولا أعرف لماذا اختاروا صورة لكلب بوليسي لطيف لتكون علامة على هذا البرنامج الذي يتابعني أولادي به، لكن على أي حال ستستخرج لي كارتا جديدا.

غادروا وعيالهم مع انتصاف الليل، وتحية خاصة لأحفادي، أحب نظراتهم الماكرة على استحياء، بينما يترقبون الدعابات –الثقيلة- معي، فقد كبروا. قالت لي أنها ستتصل صباحا لإيقاظي، لأنزل إلى المكان في وسط البلد، وستقابلني في الظهيرة "موعد البريك". قمتُ ألملم بقايا لعبهم إلى الصناديق التي أحتفظ بها، أعرف أنها لا تلفت نظر أولادهم المنهمكين في شاشات "التابلت"، لكن ربما لأني أشعر ببعض السعادة إذا لفتت نظر أحد الصغار، أو أثارت ذكرى لآبائهم.

ولعلي لم أنم ليلتها ولم أتمكن من القراءة، ويخايلني عم سعيد صراف المصلحة يوم قبض المرتب، وحيل كان يفتعلها لنقص "الفكة" معه، وهو نفس ماتقوم به ماكينة المعاش، إلا أن هذه اللعينة تشك فيْ فتلتَهِم الكارت نفسه، فأستغيث بالأولاد –كتر خيرهم- وأعطلهم عن أشغالهم. أعرف الطريق إلى المكان الذي حددتَه، وكذلك المواصلات إليه برغم مرور هذه السنوات، فوسط البلد يحمل لي ذكريات جميلة لا تنسي. خرجتُ من محطة المترو فلفظني الدَرَج بين بقايا "سور الأزبكية"، لم يبقَ منه إلا الاسم، وهذا الزحام لم يعد من أجل الكتب، فورثة باعة الكتب العظام يتخفون لأمور أخرى خلف بعض الكتب الخارجية للمدارس ولعب الأطفال والملابس، وتقريبا لا وجود للكتب القيمة. وقفتُ أتلفت متمهلا لأعبر الشارع عند الحافة المتبقية من الحديقة العظيمة المختفية بأسوار حديدية خلف عدد هائل من الباعة، يبيعون كل شيء، وأصواتهم تطغى على ضجيج ماكينات السيارات التي لا تتحرك. أمر بينها لأصل إلى العمارة الضخمة، وعليها إعلان الدجاج المحمر الذي اكتشف خلطته السرية ذلك العجوزالأمريكي الملتحي طيب القلب. يُصر مقريزي عصرنا –المرحوم صلاح عيسى- على أن ها هنا وبالتحديد مكان محطة البنزين المجاورة للعمارة الضخمة، هنا قد حدثت واقعة قتل "كليبر" على يد سليمان الحلبي، قلت في نفسي "لماذا هذه الحكاية الآن، وأنا لا أجد المقهى القديم، وأين سأجلس هذه الساعات المتبقية على الظهيرة ؟". اقتربتُ مجتازاً المحطة إلى الشارع الجانبي، لمحت اللافتة القديمة معلقة بإهمال جانب أعلى ممر ضيق بالجوار، حلّت محلها لافتة أخرى، لكن توجد عدة مقاعد قديمة وآثار رش ماء. أملتُ رأسي أنظر داخل الممر، فعلا تبدو بقايا ذلك المقهى القديم، وكان بداخله أيضاً بار في عمقه المظلم. انتقيتُ مقعدا بالخارج مواجها لمبنى البنك العريق هناك، البقايا بالخط الأبيض المهترئ على اللافتة الخشبية تشير إلى مقر "المأذون الشرعي" مع رقم تليفون أرضي لم تعد أرقامه الخمس واضحة. تساءلت في نفسي عن هذا الصباح العجيب الذي بدأ بذكريات سور الأزبكية العظيم واندثاره التدريجي منذ حريق دار الأوبرا، مرورا بمكان مقتل كليبر، والآن أجلس في رحاب الشيخ حسن مأذون وسط البلد الشهير، وكان الخبثاء يطلقون عليه "مأذون المهام الصعبة"، فقد كان مكتبه في أعماق هذا "الخُن" وتليفونه لا يهدأ منذ العاشرة ليلا، انتابتني ضحكة فتلفتُ حولي، لا يوجد أحد سوى بعض الباعة البسطاء ببضائعهم. كان يحضر مسرعا إلى المسرح على دراجته متأبطا دفتره "يسميه السهاري"، ودائما يحفظ عمال المسرح رقم تليفونه. لم يأتِ نادل لأطلب شاياً، رُحت أتأمل المكان وتطاردني حكاية أبو صلاح نقلا عن الجبرتي، فلعل شجرة الجزورينا الضخمة التي اختبأ خلفها سليمان الحلبي كانت مكان مضخة البنزين هناك، وترقبْ كليبر نازلاً من سراي الألفي ربما مكان هذه العمارة متأبطا ذراع صديقه، هنا سمعتُ من ينادي اسمي مصحوبا بطلب "واحد شاي تقيل للأستاذ الموسيقار"، أصابني هلع، انقطعت صلتي بالموسيقى منذ زمن طويل، ويعرف اسمي ! ! فالصوت ليس غريبا لكن تنقصه عدة أسنان لضبط الصوت مع نفس مُجهَد، أحملق في عمق الكهف المظلم الذي انشق عن هيكل منحني على رأسه قبعة زرقاء أسفلهاعدسات سميكة، يقترب متسانداً على شاب طويل يحمل صينية عليها كوب الشاي، يستكمل نفس الصوت "والله زمان –يضحك ويتكلم فيتطاير رشاش من فمه- خلاص ماعدش عندي دفتر، اتفضل يا أستاذ"، أفسح الشاب له مقعداً يواجهني. يحملق فيّ من خلف العدسات السميكة، ولا أصدق أنه حسن الذي كان يطلق على نفسه "موثق عقود الأنكحة" فقد كان يحكي دائما عن رحلته الفاشلة إلى إحدى دول النفط للعمل في القضاء الشرعي، إلا أنهم سرعان ما طردوه فعاد إلى وظيفته هنا كمأذون. كسر صمت نظراتنا، فرِح بأنه عرفني برغم الصلعة (الكبيرة، ويضحك) والنظارة، إنهال سيل الذكريات، وهالتني ذاكرته الحديدية مع امتصاصه لدخان السيجارة يفعصها بين أصابعه التي أصبحت ترتعش، وقد تهيأ للحكي كعادته. قال حزيناً "تعرَف من توفى منذ عدة أيام ؟" سحب نفساً وقال إسم الراقص الذي كان سيصبح نجما لفرقة الباليه الرسمية، لولا فساده فطُرد لكنه واصل العمل في فرق المسرح الخاصة التي انتشرت مع الانفتاح وهجوم النفط، واستقطبت راقصي فرقة رضا وغيرها. كنا نعلم أن عقدته كانت أخاه الأكبر الراقص اللامع في باليهات أوروبا، وعجز هو عن اللحاق به. وسيمٌ بارعٌ وقت انتشار بنطلونات الجينز العالمية الوافدة من بورسعيد الباسلة المنفتحة، ولعل هذا الهجوم الكاسح للجينز باهتزازاته الغامضة كان وراء تعدد الزيجات الخاطفة بين عيال فرق الرقص وبعض الممثلين الشبان، كما تراءى لي وقتها، فانتعش الشيخ حسن، فلا تمر ليلة إلا ويستضيفونه العيال في المسرح بعد انتهاء العرض ومغادرة الجميع، بمباركة الواد سعيد حارس المسرح، فيتمم حسن الزيجة، وربما يستضيفهما سعيد لليلة في غرفة أحد النجوم وكله بثمنه، وكانت النكتة السائدة وقتها أن المهر هو ثمن رغيف حواوشي (ربع جنيه، وكان اختراعا جديدا وقتها). يُعلّق "كان المرحوم زبوني، البنات كانوا بيموتوا فيه ويتخانقوا عليه عندي هنا"، يشيربإبهامه إلى خلفه عمق "الخن" حيث غرفته بالمكتب المتهالك، وأعلاه مسمار يعلق عليه جُبته وشال العمامة، يلبسهما نهارا فقط، يضحك وينظر إليّ بتركيز "لكن أنتم كنتم محترمين، وكنت أحب أقعد أسمع مزيكتكم لما كنتم تقعدوا للبروفة بالليل – بعيد عن العيال دول"، كان الأستاذ مخرج مسرح الجامعة –عقب المسابقة منذ عدة سنوات- قد استعان بنا لموسيقى مسرحياته في المسرح الخاص. لحظة نفاد سجائره، استأذنته بسرعة لأحضر علبة أخرى، أعرف أن هناك كشكا بالجوار، نظر إليْ شاكراً "أنا فاكر حديث بيننا عن مسرح الموسيقى العربية بجوارنا، أيام موشحات فؤاد عبد المجيد الأندلسية، وقعدت تحكي ليلتها عن الأندلس حكايات كنت أول مرة أعرفها رغم دراستي في الأزهر" - طبعا أنا لا أذكر هذه الحكاية - سرعان ما علّق ضاحكا "بأمارة دوركليوباترا "، حملقتُ فيّ عيناه المعتمتان وقد دارت رأسي للخلف، ففي هذه الأيام فوجئت بطلب غريب من نجمة العرض للقائي، أبلغتني مساعدِتها بالاسم مسبوقا بأستاذ، اندهشتُ طبعا بين غمزات  الزملاء، فكل علاقتنا بها كانت بروفة لغنائها بصوت تغلب عليه الشهقات المثيرة بين كلمات وتلميحات تستدعي الرقابة، بالإضافة لموسيقى بإيقاع "جيرك" تتبع خطواتها على المسرح لتهتز في فستانها المبهر كاشفا سخاء الطبيعة في انحناءاتها وبروزاتها التي تزدحم الصالة من أجلها، ونسمع الجمهور يتهامسون حول ترقب الرقصة بين بنات الفرقة مع خفض الأضواء، وفعلا هي كانت لطيفة معنا، لكنها ليست معرفة ! ذهبتُ إليها في الكواليس في حجرتها الضيقة المعبقة بالدخان، تجلس مسترخية بين الفصلين في ملابس خفيفة، بعد ترحيب سريع قالت إن لديها سيناريو لفيلم أجنبي تاريخي مرشحة فيه لدور كليوباترا، مدت إليْ ورق السيناريو مبدية رغبتها في حديث عن هذه الشخصية والأهم ظروفها، قبل أن أعلق قالت لي ضاحكة بخفة أنها لن تبلغني بمن أرشدها إليْ. عدت إلى مكاني بين الزملاء لموسيقى الفصل التالي ورأسي مشغول، وأعينهم لا تكف عن ملاحقتي، وبعد الستار تمادى هزارهم إلى حد يذكرونني بزوجتي تنتظرني في البيت وعندي طفلة مولودة، الأنذال غير مقتنعين أنها مجرد استشارة.

اتفقنا على لقاءات بعد العرض لعدة مرات، على أن توصلني إلى المنزل في سيارتها، رحت أحدثها عن قيصر ولقائه بكليوباترا وهي بعد مراهِقة، سمراء ذكية نيلية في قصر أبيها، فوجئتُ بها تنهض لتحتضني بقوة قائلة "هو ده المطلوب، مراحلها الأنثوية في علاقتهما.." لا أذكر بقية حديث تلك الليلة البعيدة، لكن في ليلة تالية جاء حسن مشمرا بنطلونه فقد كانت ليلة ممطرة، يسلمها ورقة طلاق. التفتُ إليه.. هو.. نظرتُ إليه يتأملني، هببتُ واقفا أمسكه من قفاه "أنت من قال لها على اسمي"، يضحك مصفقا "أيوه أنا، كانت محتاسة بالورق عندي هنا، وأنا زوجتها للواد بتاع الرقابة عندي هنا في المكتب، وجَنِنِته لما اشتغلت في السينما كمان في أفلام المايوهات، كانت تيجي تشتكي منه وتعيط، فطلقها وبعت لها الورقة". دق الموبايل في جيبي وظهرت صورة ابنتي، سأتحرك للقائها على باب البنك عبر الشارع. استأذنته بلطف، أمسك بيدي بقوة، يقول متهتها : لي رجاء عندك قبل ما تمشي –أخرج كارت من جيبه وورقة عليها رقم غير واضح، هو لون كارت معاشي- تعالى معايا عند الماكينة جنبنا هنا لتساعدني في صرف المعاش.