دخل قانون الذكاء الاصطناعي حيز التنفيذ رسميا في الاتحاد الأوروبي مطلع أغسطس الجاري، بعد موافقة الدول الأعضاء في مايو الماضي، وهو أول قانون في العالم للذكاء الاصطناعي، وتعد مصر من الدول السباقة في الاستعداد لعصر الذكاء الاصطناعي، لإدراك عائده الاقتصادي الواعد حيث سينمو سوق الذكاء الاصطناعي في مصر بنسبة 120% على أساس سنوي، وفقا لوزارة الاتصالات.
هذه الأرقام قد تكون مستفزة لبعض القراء لكنها تظهر القيمة المضافة لهذا القطاع في تحقيق قفزات هائلة قد تعوض عقودا من التأخر في اللحاق بركب التكنولوجيا المتطورة وتتجاوز انشغالنا بأوحال سياسية عطت مسيرة التقدم، كما يتيح فرص عمل لفئات عريضة من الشباب العاشق للتقنيات الحديثة، يمكن أن تتفتق فيها ابتكاراتهم وتتحقق من خلالها طموحاتهم.
وقد أطلقت مصر الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في يوليو 2021 وكذلك الميثاق المصري المسؤول عن بلورة الأطر التنظيمية للاستخدام الأخلاقي للتقنيات الذكية بطريقة تطور الجهاز الإداري ولا تضر المجتمع، بل تسهل عليه الوصول إلى الخدمات، وهذا كله جيد واستباقي؛ وقد يحتاج الأمر إعداد تشريع شامل ينظم آليات الاستخدام، وقد تابعت مناقشات في مجلسي الشيوخ والنواب طالبت باستحداث وزارة منفصلة مختصة بالذكاء الاصطناعي. كما أن هناك حاجة لتطوير المناهج في المدارس وإنشاء أقسام في الجامعات متخصصة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
ومع إدراك المزايا من هذه الخطوات لا يمكن تجاهل المخاوف المتعاظمة حاليا من أن يسبب ذكاء الآلة غباء البشر وفوضى في حياة الدول. فالاعتماد في المستقبل يرتكز على ذكاء الآلات لتنفيذ المهام فائقة الدقة والسرعة. ومثلما ودعنا منذ عقود إجراء العمليات الحسابية بالعقل البشري واعتمدنا على الآلة الحاسبة فإننا قد نودع قريبًا العنصر البشري لكن في كافة مهام العمل ليحل محله الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي في كافة الأعمال. لذلك، من الضروري جعل التطور التكنولوجي يخدم مصالحنا، في ضوء التجارب التاريخية التي أثبتت أن مصالح الدول الكبرى والغنية التي تقود تلك الابتكارات وتمولها هي المستفيد الأول والأكبر منها.
لقد تكبدت الدول النامية وشعوبها أضرارًا فادحة نتيجة الثورة الصناعية في أوروبا واستمر ذلك طويلا بدءًا باستنزاف مواردها الطبيعية، مرورًا بـ "خطف" عقولها "على الجاهز" الذين أسهموا في بناء الصروح الصناعية والزراعية، ووصولًا إلى التلوث في البحار ومياه الأنهار والهواء. ولم نجن نحن سكان بقية الأرض سوى القليل مع الكثير من التداعيات الكارثية مثل الأمراض والنزاعات التي أججوها بخطط جهنمية داخلية تارة وخارجية أخرى حتى يعززوا نفوذهم في تلك المناطق ويسيطروا على ثروات الغاز والنفط والذهب والمعادن والمياه. هذا الإرث التاريخي المليء بالمظالم لا يمكن تجاهله.
ومنذ ظهور الذكاء الاصطناعي حققت الشركات الأمريكية والأوروبية مكاسب هائلة من خلال تجميع البيانات وتحليلها وقراءة مخ الإنسان، وحتى معدته وأمعائه وما يحبه وما لا يرغب فيه. كل ذلك من أجل السيطرة على المستهلكين والتحكم في رغباتهم وصناعة وترويج منتجات تجعلهم على الدوام في قبضة تلك الشركات العالمية. وهذا معنى آخر يشير إليه عدد من المفكرين حاليا ويصفونه بـ "السيطرة الإمبريالية التي يسعى إليها التيار النيوليبرالي".
ولأننا مستهلكون للتكنولوجيا لابد من البحث عن مقاصد لها لا تحمل الوجه الكريه بل تعزز الإيجابيات، خاصة وأن الأهداف الجذابة للذكاء الاصطناعي خادعة، وتتطلب ميثاقا أخلاقيا صارما، وألا يكون تطوير الجهاز الإداري للدولة بإدخال التطبيقات الذكية في منظومة العمل من أجل الاستغناء عن الموظفين بل تطور أدائهم. أقول ذلك بعد أن قرأت عن استقالة جيفري هينتون، الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، من شركة غوغل مايو الماضي، محذرًا من الاستغناء عن 300 ألف موظف أمريكي وكيف أن الروبوتات الذكية ستصبح قريبًا أكثر ذكاء من البشر بينما صُنعت لمساعدتهم وليس الاستغناء عنهم، كما هو الحال في الهندسة المعمارية والصحافة والبنوك والمصانع والمحاماة وغيرها من القطاعات التي سيصبح فيها القرار "وان روبوت شو"، لنودع المتعة والشغف وندخل عصر الممل والبطالة!
وللحفاظ على القرار الوطني لابد من ابتكار تطبيقات محلية. أما إذا كانت التطبيقات مستوردة فهذا يعني تكلفة مضاعفة لإحلالها كبديل لأنظمة العمل القائمة. كما أنها تعني أن المتحكم هو من ابتكرها. وتزخر مصر بالشباب المخترعين للتطبيقات. وهناك رغبة وخطط من الحكومة لدعمهم، نتمنى أن تتحقق على أرض الواقع. وهناك مخاطر أكثر عمقًا تنطبق أيضًا على مجال السياسة وصناعة الرأي العام، مثل إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير على الأصوات في الانتخابات، حيث لا يؤثر فقط على تشكيل الرأي والموقف السياسي ولكنه قد يولد معلومات خاطئة من شأنها أن تتلاعب بمن يتخذ القرار، وقد تزعزع استقرار المجتمع.
لقد تعمّدْتُ تعداد السلبيات بعد أن أصبحت محاسن الذكاء الاصطناعي على كل لسان، بل هناك انبهار به لدى الشباب لدرجة تعمي العيون عن سيئاته. والحقيقة أن المشرّع لقانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي قد تنبّه لعدد من السلبيات وراعى ذلك في وضع قواعد تنظيمية ملزمة. وقد يستدعي الأمر اتخاذ خطوات مماثلة من خلال مجلسي النواب والشيوخ في مصر، سواء باستحداث قانون منفصل أو بإدخال تعديلات على القوانين الموجودة وعلى وجه السرعة بهدف تعظيم إيجابيات الذكاء الاصطناعي ودرء سلبياته.