من أين أتى الروائى الخَلاَّق "محمد حسن علوان" بهذا الخيال البديع والتصور المدهش فى روايته الرائعة "موت صغير"، وكيف تمكن من الإمساك بأحداث وتفاصيل حياة الشيخ الأكبر "محي الدين بن عربي"، الزاخرة والمشحونة بالصعود والهبوط والسفر والترحال والتأليف والأقوال والفكر والشعر والفلسفة؟
كيف استطاع هذا المبدع أن يكتب برشاقة أدبية وببراعة أسلوب عن حياته بهذه السلاسة والسهولة.. كيف؟
لقد أجاد فى حبكته الروائية وبدهاء المقتدر الماهر جعلك مستمتعا بما تقرأه وبالحوار والمشاهد الخَلاّبة السَاحِرة ومتشوقا لما سيحدث فى كل حركة وكل موقف.
بدأ بذكاء قصة لقاء الشيخ الأكبر بالحسناء "نظام" أثناء طوافه بالبيت بعد أن انفصلت زوجته "مريم" عنه وأقامت مع أهلها حتى ماتت فلقد خرج من قلبها وخرجت هى من قلبه.
ووصف الروائى الخَلاَّق صراعه النفسى بشعور بأن في قلبه أشيبًا يحتضر وطفلًا يولد... وسكراتٌ وصرخات.. ولحدٌ ومهد... شمسٌ تشرق وأخرى تغرب فلم يجد الا الطواف بالبيت حتى يهدأ... وفعلا راح يطوف ويطوف، سبعًا، عشرًا، مئةً ومائتين، ألفًا وألفين... لا يقف إلا لأداء الصلاة المكتوبة ثم يكمل الطواف،ثم يطوف بلا توقف، حتى شعر بنقرةٍ على كتفه، ففزع والتف فإذا بها "نظام"!
كانت تخفي فمها بخمارها، وبدت عيناها تضحكان، وبدا ارتباكه واضحًا، ولسانه معقودًا لا يملك كلامًا فتكلمت هي:
– ماذا تفعل هنا يا رجل؟ وبنبرة خفيضةٍ خائفة قالت له: هل نظرت حولك؟
أدار رأسه ببطء لينظر إلى ما تقول فصُدم.
شاهد نساءٌ كثر... نساءٌ عن يمينه وشماله يطفن بالكعبة ويصلين في الساحة.. حشدٌ هائل من النساء لا رجل بينهن إلا هو وأصابته نظراتهن المستغربة والمستهجنة والعاتبة والغاضبة نظرةً تلو أخرى...
فماذا فعل الشيخ الأكبر صاح بصوت مخنوق:
ماذا الذى يحدث؟
أجابته" نظام" بقلق:
اليوم هو التاسع والعشرين من رجب...
فقال متعجبا ومتسائلا وماذا يعني هذا؟
كان جوابها هو أن هذا اليوم هو يوم طواف النساء!
وتساءلت هل ترى رجلًا غيرك في المسجد؟ اخرج الآن!
فابتعد فورًا وكأنه طفلٌ نهرته أمه... هرول مترنّحا في مشيته جهة باب المسجد وبدا مثل تائهٍ لا يدري أين يتجه وهو يحاول فى نفس الوقت تجنّب أفواج النساء التي تتدفق فاصطدم بإحداهن ووطأ قدم طفلٍ تجرّه أمه فبكى فسمع بوضوحٍ شتائم بحقه ولكنه لم يلتفت وحث السير وجاهد عند الباب حتى وجد نفسه خارج المسجد ولمح وجوه فشعر بالألفة...
كان هذا هو تصور الروائى البارع لأول لقاء بين الشيخ الأكبر و"نظام" ابنة الشيخ زاهر وفى كثير من هذه اللقاءات مفردات جديدة مع عنصر الدهشة والإثارة، مما يدفعك للاستمرار في القراءة بتلذذ واستمتاع بالمواقف الحياتية المملوءة بالمباغتة والدهشة.
لكن كيف كان لقاء الشيخ الأكبر بالشيخ زاهر والد "نظام" التى أحبها وكيف كان الاقتراب منه ؟
إليك الإجابة من الرواية
"لمحته يومًا يجلس بين طلابى... واسع الجبين كأنه كتابٌ مفتوح... أبيض اللحية كأنه قنديلٌ منصوب... دائم البسمة كأنه مولد فجر... استشعرت في قلبي هيبته دون أن أكلّمه و،لكن عانقته عناق محبٍّ وأنا لا أعرف من يكون واختلفنا من يجلس بين يدي الآخر بعد انتهاء الدرس فانتهينا آخر المطاف جالسين على عتبة متكئين على جدار...
ثم قال الشيخ زاهر أخيرًا:
– تأتيني أم آتيك
رد الشيخ الأكبر
بل آتيك غدًا عند مقام إبراهيم ...وهكذا التقيت زاهرًا الأصفهاني إمام المقام الإبراهيمي ومكثت في دَرْسِهِ طيلة عام لم أضيّع فيها يومًا واحدًا ولا ليلة علّمني كل ما يعلم واختبرت معه كل ما أعلم كلما أقبلت عليه صباحًا وضع يده على قلبي جهة صدري وعوّذني، ثم قرأنا ما نحن بصدد قراءته فإذا استأذنته لأنصرف ليلًا وضع يده على قلبي جهة ظهري وعوّذني، فأعود إلى البيت مستظلًا بغمامةٍ من بركةٍ ورضا لم يترك هذه العادة قط"...
ولكن كيف نما الحب بين الشيخ الأكبر وابنة الشيخ زاهر... الأسبوع المقبل نكمل بإذن الله.