عندما خلق الله تعالى الإنسان، كرمه وجعله في أحسن تقويم، وميزه عن سائر المخلوقات بنعمتين عظيمتين هما نعمتي العقل والإرادة.
فبالعقل يستطيع أن يفرق بين الخير والشر، الحق والباطل، الحسن والقبيح، بمعنى أدق لولاه لما تحققت صفة الإنسية بداخله، وتحول إلى كائن حي يأكل ويشرب ويتكاثر.
والعقل يقف رقيبًا مهذبًا لقوى الإنسان؛ سواء الشهوية فيعرفنا على معنى الفضيلة، فضيلة العفة، ويعرفنا على فضيلة الشجاعة التي يسيطر من خلالها الإنسان على غضبه، فليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، وكذلك يعرفنا على رأس الفضائل وهي العدالة، كيف يتسنى لنا معرفة ذلك، ومن الذي يوجهنا إلى الفضائل لاقتنائها والرذائل لاجتنابها، فلسفة الأخلاق التي هي تبحث في فكرة خيرية الأفعال وشريتها.
أما الإرادة فتلك نعمة عظمى من الله تعالى منحها للإنسان، فمنحه القدرة على الاختيار؛ أي الطرق يسلكها متحملًا مسئولية اختياراته.
ونحن الآن نعيش في عالم متغير، أهله مختلفون في التوجهات والاتجاهات الفكرية؛ سواء اتجاهات إسلامية أو ليبرالية أو علمانية أو شيوعية، من الذي يرتب لهذه الاتجاهات أفكارها، ويجعل الفكر الإنساني في حركية وديناميكية واستمرارية، التفكير المنطقي المنظم، وبما أن المنطق فرع لا غنى عنه من فروع الفلسفة، وبما أن الأصوليين بنوا اجتهاداتهم وقياساتهم الفقهية على المنطق، إذن ألسنا في حاجة في وقتنا هذا إلى تفكير منظم يرتب للناس حياتهم، وينمي فكرة المواطنة لديهم؟! من المنوط بهذا الدور المفكر والفيلسوف؟!
ورب واحد يسأل، وسؤاله مشروع، ما علاقة هذا الكلام بوأد الفلسفة؟! نرد عليه قائلين أليست الفلسفة غذاءً للروح، أليست الفلسفة إعمالًا وتدريبًا للعقل، تدريبه على فقه الأولويات، وفقه الضرورات، أليس العقل كما ذكرت سابقًا هبة من عند الله، كيف ننميه ونحافظ عليه ونخرجه من حيز الوجود بالقوة إلى أن يمارس دورًا فعالًا في حياة الإنسان، من الذي يساعده على ذلك مخرجًا ما بداخله من رؤى وتصورات وتخيلات لواقعه الذي يحياه، ليس هذا فحسب، بل وتصوره لمستقبله ولمستقبل البشرية جميعًا، فمن منا كان متصورًا لهذه الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الحادثة الآن، لولا أن العقل فكر وأبدع ودرس ونظر وانتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق، فكما أن ثم فلسفة نظرية، لدينا فلسفة تطبيقية، أليس من دراساتنا الفلسفة فلسفة البيئة، الفلسفة السياسية، فلسفة النقد؟!
لماذا هذا التوجه الخطير لتدمير العقل الإنساني، لهدم ذات الإنسان المفكر وفقدانه هويته، ألم يقل ديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وجود حقيقي لا وجود كينوني كائن حياة، ما خلقنا الله عبثًا لكي نأكل ونشرب ونتكاثر، وإنما خلقنا وعلمنا البيان؛ والبيان هنا العلم والمعرفة القائمة على الفهم والاستبصار، كيف ننمي هذا الفهم والإدراك والاستبصار عن طريق الفكر؟ ومن الذي يعلمنا كيف نفكر؟ أليست الفلسفة.
السؤال المشروع، لمَ وأد الفلسفة الآن؟ ولمَ حذفها من مقرراتنا التعليمية؟ ولمَ قصرها على الصف الأول الثانوي فقط؟ الفلسفة نسيج متكامل، بناء متكامل، ما ندرسه في الصف الأول مقدمة للصف الثاني، وما ندرسه في الصف الثاني خارطة طريق للصف الثالث.. وهكذا.
هل هذا التوجه تمهيدًا لوأد الفلسفة من الجامعات، إذا كان ذلك كذلك، فما الفرق بيننا وبين العصور الوسطى المظلمة التي منعت فيها الفلسفة، ونُكل بالفلاسفة واتهموا بالكفر والإلحاد والزندقة، ليس هذا فحسب، بل وأحرقت كتب بعض الفلاسفة؟!
مصر هي مهد الحضارات ومنبع الفكر والتفلسف يشهد لنا سقراط وأفلاطون وصولون المشرع اليوناني وفيثاغورث، وهؤلاء جميعًا زاروا مصر، مصر بلد العلم والحضارة والتاريخ والجغرافيا، بلد الأئمة؛ أئمة الفكر التنويري فى العالم بأسره توأد الفلسفة عندنا بجرة قلم، نحن بلد الفلاسفة، ماذا سنقول للطهطاوي، ومحمد عبده، ومصطفى عبدالرازق، وزكي نجيب محمود، وأحمد أمين، وقاسم أمين، وسهير القلماوي، وأنيس منصور وغيرهم كثر؟!
إنها لإحدى الكُبر، نذيرًا للبشر!! هل ثم بلد في العالم ألغى الفلسفة من المقررات الدراسية، في الوقت الذي تراجعت فيه بعض الدول العربية، وعدلت مواقفها وأعادت للفلسفة مكانها، وأعادوها معززة مكرمة، بعدما أصاب الناس التخمة وثقلت الرؤوس واثاقلت عن التفكير، أعادوا للناس وعيهم وأعادوا إليهم رشدهم عن طريق الفكر.
ما لكم كيف تحكمون؟!
ماذا سنقول لمنظمة اليونسكو يوم الثامن عشر من نوفمبر، اليوم العالمي للفلسفة؟! ماذا سنقول؟! بدلا من أن نحتفي بالفلسفة نقيم حفل تأبين على روحها؟!
إن ما يحدث الآن جريمة لا تسقط بالتقادم، والتاريخ لن يرحمنا جميعًا، ولن يرحم من وأدها، ولن يرحمنا نحن إذا لم نهب على قلب رجل واحد لنصرتها!!