الجمعة 04 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

17 أغسطس.. اليوم الذي يجمع بين خالد محيى الدين ورفعت السعيد إلى الأبد

خالد محيي الدين
خالد محيي الدين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حديث الذكريات يكتبه: محمود حامد

 17 أغسطس.. اليوم الذى يجمع بين خالد محيى الدين ورفعت السعيد إلى الأبد

«محيى الدين» معارض عاشق للوطن:
عقد صفقة السلاح من الكتلة الشرقية فى مواجهة محاولات أمريكا حصار البلاد رغم نفيه خارج مصر

كان وراء عودة العلاقات المصرية مع ليبيا القذافى بعد سنوات التوتر فى عهد السادات

نجح فى عقد مؤتمر للأمم المتحدة فى القاهرة «من أجل شرق أوسط.. خالٍ من أسلحة الدمار الشامل» وكان له صداه الواسع

 

حديث الذكريات يكتبه : محمود حامد

رفعت السعيد أيقونة اليسار المصرى والمفكر الواعى بأولويات العمل السياسى

 

من تصاريف القدر، مثلما جمع بينهما تاريخ طويل من العمل المشترك، فقد جمع بينهما أيضًا يوم ١٧ أغسطس، الذى يوافق هذا العام مرور مئة واثنين من الأعوام على ميلاد الفارس خالد محيى الدين، وسبع سنوات على رحيل القائد والمعلم الدكتور رفعت السعيد.
كيف يمكن أن نصف تلك العلاقة التاريخية بين خالد محيى الدين والدكتور رفعت السعيد؟.. كيف بدأت ونمت على مر الزمان بين الزعيم وتلميذه النجيب؟.. لعله التوافق الفكرى والارتياح النفسى والاحترام المتبادل والثقة غير المحدودة فيما بينهما، فقد كان لكل تلك العوامل «مفعول السحر» ورسخت كل معانى الالتقاء الروحى بينهما فى علاقة قوية ومتينة ومبهرة كسبائك الذهب اللامع حتى آخر لحظة فى الحياة.
كانت البداية داخل مؤسسة أخبار اليوم، عام ١٩٦٤ حيث كان الزعيم رئيسًا لمجلس إدارة المؤسسة، وكان رفعت السعيد فى بدايات مشواره الصحفى بعد خروجه من المعتقل.
ومن المؤكد والثابت أن العلاقة بينهما نمت وتوطدت حتى إنك تستطيع أن تقول إن «السعيد» أصبح كاتم أسرار «محيى الدين» وذراعه اليمنى داخل المؤسسة، واستمر كذلك حتى آخر العمر.. لكن وجود خالد محيى الدين على رأس «أخبار اليوم» لم يستمر سوى عام واحد فقط، فاستقال بعد وشايات ومحاولات وقيعة بينه وبين جمال عبدالناصر.
لكن العلاقة بينهما لم تنته بخروج «محيى الدين» من المؤسسة، بل إنها تعمقت أكثر وأكثر.. كان «السعيد» يعتبره زعيمه وأستاذه وصديقه أيضًا، وحرصا خلال فترة إبعادهما عن العمل العام، على تنظيم قراءة مشتركة وتثقيف ذاتى معًا، مما أسهم أكثر فى التقارب الفكرى بينهما، ومثلما كانا معًا فى «أخبار اليوم»، عملا معًا فى مجلس السلام العالمى واللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح.. كان «محيى الدين» نائبًا لرئيس مجلس السلام العالمى ورئيسًا للجنة المصرية، وكان رفعت السعيد ساعده الذى يعتمد عليه فى فعاليات اللجنة بمصر، كما أرسله لفترة للعمل ضمن طاقم مجلس السلام العالمى فى هلسنكى.
وعندما فكر «محيى الدين» فى تأسيس منبر اليسار، لم يجد أقرب من رفعت السعيد ليكون بجانبه، ويساعد فى الاتصالات وتجهيز الأوراق اللازمة وترتيب الاجتماعات التمهيدية التى كانت تُعقد معظمها فى منزل الكاتب الصحفى حسين فهمى، نقيب الصحفيين لعدة دورات ورئيس تحرير «الأخبار»، وكان لفترة «القراءة المشتركة والتثقيف الذاتى» دورها المؤثر فى بناء حزب التجمع، حيث البحث عن حلول توافقية ترضى الذين جاءوا من مدارس فكرية مختلفة، ونجح الزعيم وتلميذه فى هذا الأمر نجاحًا منقطع النظير فى ظل عقل واحد وتفكير مشترك يجمعان بينهما.
كانت كيمياء العلاقات الإنسانية فى أبهى صورها بشكل مذهل يفوق أى محاولة لوصف تلك العلاقة، ولم نشهد طوال فترة التجمع، أى خلاف بينهما عند مناقشة أى قضية من قضايا العمل السياسى أو الحزبى.. كان كلاهما يكمل بعضهما فتستمع إلى خالد محيى الدين يتحدث فى الاجتماع ليقنع الحاضرين بفكرةٍ ما، ويلتقط الخيط رفعت السعيد ويكمل، فتشعر بأن خالد محيى الدين ما زال يتكلم.
وبكل اليقين، فإن عمق هذه العلاقة ساهم بدرجة كبيرة فى عبور التجمع آنذاك أزمات عديدة، سواء على المستوى التنظيمى الداخلى أو على مستوى المواقف السياسية، وجعلت سفينة أول حزب علنى لليسار المصرى تصل دائمًا إلى بر الأمان رغم كثيرٍ من الأمواج المتلاطمة التى واجهت تلك الصيغة الجديدة، عندما كان الحزب رقماً قوياً وفاعلاً ويُحسب له ألف حساب فى الحياة السياسية والحزبية.
وقد يتعجب البعض من هذا الكلام، عندما يعرفون شخصية خالد محيى الدين «الهادئة» وشخصية رفعت السعيد «الهادرة»، لكننا ما كنا نرى سوى التوافق التام بينهما، وكان التلميذ خارج الاجتماعات ينصت باهتمام للزعيم ويتناقش معه بهدوء غير معتاد، لتتأكد فى النهاية أن الاتفاق الفكرى بينهما حائط صد يحمى العلاقة من أى تصدع مهما كان بسيطًا.
الوطن أولًا
اختلف «محيى الدين» مع «عبدالناصر» ورفاقه، لكنه لم يكره وطنه فى أية لحظة، ونعلم جميعًا أن الخلاف كان فيما عُرِف بأزمة مارس، وقرر ناصر يومها نفيه خارج البلاد. ولعمق العلاقة بينهما، التقى الاثنان وطلب محيى الدين أن يذهب إلى فرنسا، إلا أن ناصر قال له: «فرنسا فيها نشاط يسارى كبير وأقترح عليك أن تذهب إلى بلد هادئ» فاختار خالد محيى الدين النفى إلى سويسرا.. ورغم نفيه اختياريًا فقد كان مهندس صفقة كسر احتكار السلاح وأجرى باسم مصر، وبطلب من عبد الناصر، مفاوضات الحصول على السلاح من الكتلة الشرقية، ونجح فى تحقيق الهدف فى مواجهة محاولات أمريكا لحصار مصر.
وما لا يعلمه كثيرون، أن مبارك عندما جاء للحكم عقب اغتيال السادات، لم يجد غير المعارض الوطنى خالد محيى الدين ليعيد المياه إلى مجاريها مع ليبيا القذافى، والتى كانت متوترة للغاية بين البلدين، ويومها طلب خالد محيى الدين أن يحاط علمًا بتفاصيل الخلاف الذى لا يعلم عنه سوى ما تنشره الصحف، فقرر مبارك أن يرسل كل ما يتعلق بملف ليبيا إلى خالد محيى الدين.
وبعد ذلك بأيام، توجه الدكتور أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس آنذاك إلى منزل خالد محيى الدين للرد على أى استفسار منه أو شرح ما قد يكون غامضًا.. ثم توجه خالد محيى الدين فى زيارة لم يعلن عنها إلى طرابلس، والتقى القذافى الذى اعتبر مجرد توجه خالد محيى الدين إليه شرفًا له وكافيًا لعودة العلاقات، وكان هذا أول لقاء يجمع بينهما.. سألته عن انطباعه حول اللقاء، فقال لى: «بمجرد أن استقبلنى، أدى التحية العسكرية ليذكرنى بأيام زمان، ثم قال لى حضورك شرف لنا ويكفى لعودة العلاقات مع مصر الغالية، ودار بيننا حوار طويل، خرجت منه بانطباع أن القذافى مهموم بالفعل بقضايا الوطن العربى، لكنه يحتاج إلى مستشارين يضبطون الأداء».. وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنوات، سوف نتذكر ذلك اللقاء الشهير بين القذافى ومبارك على الحدود المصرية الليبية.. وهذا دليل آخر على وطنية المعارض خالد محيى الدين وسعيه دائمًا لما فيه صالح الوطن مهما كانت درجة الخلاف مع الحكم.
وبالمناسبة وللتاريخ، من المهم أن نؤكد أن القذافى حاول أكثر من مرة أن يلتقى خالد محيى الدين أثناء حكم السادات، لكن الزعيم رفض بشدة وأكد لرسل القذافى: «أنا أعارض السادات هنا فى مصر علنًا لكنى لا يمكن أن ألتقى المختلفين معه من زعماء العالم فى أى مكان».. قال لى الزعيم: «أحد قيادات منظمة عربية تابعة للجامعة العربية «لا داعى لذكر اسمه وهو الآن بين رحاب الله» كان يطاردنى كلما التقى بى فى أى مؤتمر دولى، وعندما رفضت عرضه، استفزنى أكثر وقال لى "يمكن أن يتم اللقاء سرًا فى إيطاليا أو فى مالطة" مما أخرجنى عن هدوئى وحسمت معه الأمر بقولى محتدًا: «توقف عن حديثك.. معارضتى للسادات لا تعنى التآمر عليه فى لقاء سرى خارج حدود الوطن».
لم يقتصر دوره على الشأن المحلى والعربى فقط، فهو واحد من قادة حركة التحرر الوطنى فى العالم، بحكم كونه أحد مؤسسى مجلس السلام العالمى، وشارك فى مؤتمرات دولية عديدة من أجل السلام القائم على الحق والعدل، ومن أجل تطهير العالم من أسلحة الدمار الشامل.. وبحكم منصبه الدولى، وتقديرًا لمكانة مصر، استطاع أن يعقد مؤتمرًا بالقاهرة بإشراف ورعاية الأمم المتحدة، تحت شعار «من أجل شرق أوسط.. خالٍ من أسلحة الدمار الشامل»، وشارك فيه كثيرون من أنحاء العالم يتقدمهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، كما شارك فى المؤتمر أيضًا ممثلون بصفة رسمية عن وزارة الخارجية المصرية وخبراء من وزارة الدفاع أيضاً.. ونالنى شرف اختياره لى أمينًا للمؤتمر.
لقد كانت مصر الوطن الشغل الشاغل لزعيمنا، فلم يتقوقع فى خندق المعارضة وسعى دائمًا للدفاع عن القضية الوطنية فى كل المحافل الدولية، وما كان ذلك المؤتمر الذى شهدته القاهرة سوى نموذج على منهج خالد محيى الدين.
الوجه الإنساني
الناس قد تعرف عنه بعضًا من دوره السياسى والوطنى كواحد من ألمع الضباط الأحرار وكعضو بمجلس قيادة الثورة وكمؤسس لحزب التجمع، لكن كثيرين لا يعرفون الوجه الإنسانى للزعيم خالد محيى الدين، ولا يدركون تفاصيل رحلته فى الحياة الزاخرة بالأحداث التاريخية على المستويين المحلى والدولى.
انتصاره للديمقراطية بلا حدود ودفع ثمن ذلك مبكرًا عندما اختلف مع مجلس قيادة الثورة، ودعا إلى عودة الضباط إلى ثكناتهم وإجراء انتخابات حرة نزيهة من أجل إرساء قواعد حكم ديمقراطي.
انحيازه للغالبية من الشعب المصرى، دفعه إلى تأسيس حزب التجمع، فكان أول حزب علنى لليسار المصرى وأبدع من خلاله صيغة جديدة استطاعت أن تأتلف تحت عباءتها أطياف مختلفة من الماركسيين والناصريين والقوميين وغيرهم من الاتجاهات اليسارية، عملوا جميعًا جنبًا إلى جنب وقدموا سلوكًا راقيًا للعمل السياسى والحزبى تحت قيادة الزعيم بـ«نَفَسه» الهادئ وبأسلوبه المجمع ورقيه فى التعامل مع البشر وحكمته فى مواجهة الصعاب.
إيمانه بالديمقراطية ظل كاليقين عنده، حتى أنه قرر أن يتخلى طواعيةً عن رئاسة حزب التجمع وأصر على ذلك فى مواجهة كثيرين طالبوه بالاستمرار، بل أصر ألا تزيد مدة أى رئيس للحزب على فترتين بحد أقصى أربع سنوات لكلٍ منهما، فكان أول من قدم نموذجًا راقيًا على المستويين الرسمى والشعبى فى مصر.
محبوب إلى أقصى درجة وسط أهالى كفر شكر الذين اختاروه نائبًا لهم بالبرلمان لسنوات طويلة.. محبوب من كبار أهل النوبة منذ أن كان رئيس لجنة الخدمات بمجلس الأمة التى تولت مناقشة مشكلات قرى النوبة.. محبوب وسط عارفى فضله من الكُتّاب والصحفيين منذ أن أسس جريدة «المساء» وقدم من خلالها العديد من الأسماء التى أصبحت لامعة فيما بعد فى سماء الصحافة والأدب.. محبوب من العمال والموظفين الذين عملوا معه.
وما زلت أتذكر «عم محمد» أحد السعاة الذين خصصتهم له الرئاسة بحكم وضعيته فى الثورة.. كان يتعامل معه كصديق وليس عاملًا لديه.. كان إذا أتى عم محمد يترك خالد محيى الدين مكتبه ويجلس بجواره يدردش معه ويسأله عن أحواله قبل أن يطلب منه ما يريد.. لم أشاهده أبدًا ينهره أو يرفع صوته وهو يحدثه كما يفعل بهوات هذا الزمان. كان الحنان كله مع كل الذين يعملون معه كسلوك أصيل فى طبعه المحترم وتربيته الراقية.
صديق الزعماء
التقى خالد محيى الدين زعماء كثيرين من بينهم جيفارا وكاسترو وياسر عرفات الذى كان يحرص عند زيارته للقاهرة أن يلتقى به سواء فى منزله بالزمالك أو وسط قيادات التجمع فى شارع كريم الدولة.
تعلمنا منه الكثير وكان رمزًا لكل جميل فى هذا العالم، وللأستاذ خالد محيى الدين، فضل علىّ شخصيًا لا يمكن أن أنساه ما حييت.. فمن حقى أن أفتخر دومًا أن الزعيم اختارنى «الممثل الشخصى» له بصفته نائب رئيس مجلس السلام العالمى ورئيس اللجنة المصرية للسلام، للسفر إلى الاتحاد السوفيتى السابق، ووضعنى بهذا الاختيار على عتبة الإحساس بالمسئولية أمام العالم كله، فقد كانت المهمة التى كلفنى بها هى حضور الاحتفال الذى أقيم بجمهورية كازاخستان بتفجير أول رأس نووية بناء على اتفاقية ريجان- جورباتشوف، أو معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى «آي إن إف»، التي وقعها في ديسمبر ١٩٨٧ الرئيس الأمريكي رونالد ريجان والرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، ووصفها العالم كالمعتاد بالمعاهدة «التاريخية».
وقد تم التفجير «تحت الأرض بالطبع ووفق احتياطات شديدة» فى قرية سارى آزاك بجمهورية كازاخستان.. وجرى احتفال فى مساء اليوم نفسه بحضور الوفد العالمى «٣٣ شخصية من أنحاء العالم وقد كنتُ العربى الوحيد فى الحفل».. وأتذكر العديد من الحوارات الجانبية التى دارت مع عدد من المشاركين حول قضايا منطقتنا العربية.. وكان حدثًا تناولته الصحافة العالمية تفصيلًا آنذاك، لكن ما لفت نظرى أن معظم المشاركين من أنحاء العالم كانوا يسألوننى عن خالد محيى الدين ويسهبون فى الحديث عنه بحبٍ جارف يؤكد صدق مشاعرهم، ذلك أن أهل الغرب لا يعرفون المجاملة فى أحاديثهم، ومازلتً أتذكر ما قاله لى المندوب البلجيكى: «أنا لا أعرف عن مصر سوى الأهرامات وأم كلثوم وخالد محيى الدين ذلك الرجل الذى يقنعك بوجهة نظره بكلمات بسيطة ودون تعقيد».
كان لى شرف إجراء عدة حوارات صحفية معه، سواء فى مكتبه أو فى منزله أو أثناء وجوده بالساحل الشمالى أو حتى فى القطار أثناء التوجه لمحافظات بعيدة.. وعرفت منه الكثير من تفاصيل أحداث جسام مرت بمصر، كما كان لى شرف السفر معه لمعظم مدن مصر قبلى وبحرى، وقال لى ذات مرة: «لما نعمل أى لقاء جماهيرى، ركز على كلام الناس مش على كلامى.. يهمنى أن المسئول أو المحافظ يعرف الناس عايزه إيه».
لقاء «الأهرام» 
أما القائد والمعلم الدكتور رفعت السعيد، فإن المواقف كثيرة ومحفورة فى الذاكرة على مر الزمان، منذ توجهت فى أبريل عام ١٩٧٦ لمقابلته، دون موعد مسبق، في مكتبه بجريدة الأهرام لطلب الانضمام لحزب التجمع، جلست أمامه شابًا حديث التخرج دون أن أنطق بكلمة، بينما كانت يده اليمنى تمتد لتفتح درجًا من أدراج مكتبه وتخرج محملة بكمٍ من الرسائل محفوظة داخل الأظرف الخاصة بها.. يضعها على سطح المكتب قائلًا: «فاكرك.. دى جواباتك اللى كنت بتبعتها لـ(الطليعة)».
فاجأنى الدكتور رفعت بهذا الموقف، لكنه لم يترك لى فرصة الحديث، واستكمل قائلًا: «علمتنى دراستى للتاريخ أن أحتفظ بأى ورقة أو قصاصة، فقد أحتاجها يومًا ما، وأتعامل مع ما يصلنى من رسائل كمستند يمكن الرجوع إليه ولا أستهين بأى شىء يصل إلى يدى»، ثم سألنى: «تحت أمرك»، ورددت سريعًا: «الأمر لله.. عايز أنضم لمنبر التجمع»، وابتسم قائلًا: «ده المتوقع والواضح من رسائلك.. نلتقى غدًا في مقر التجمع بالدور التاسع في مبنى الاتحاد الاشتراكى على كورنيش النيل».
لم أتصور، وقتها، أن ألتقى بكاتب مرموق واسم لامع في عالم الصحافة، وله كتاباته المهمة وأبحاثه التى أحدثت ضجة في المجتمع، ومنها دراسته عن القوى البرجوازية وعلاقتها بثوار يوليو، والتى أعدها من خلال البحث والتنقيب بين السطور في صفحة الوفيات، وكان لها صداها في الأوساط السياسية والصحفية.
وحتى هذه اللحظة، ورغم مرور أكثر من ٤٨ عامًا على اللقاء الأول، فإننى لا أعرف السر وراء اختيارى رفعت السعيد من بين أسرة تحرير «الطليعة» كى أبعث إليه برسائلى، وقد استمرت معرفتى به وتوطدت العلاقة أكثر وأكثر على مدى كل هذه السنوات.. اختلفنا واتفقنا، تعاركنا كثيرًا، لكنه كان دائمًا السباق إلى التسامح والسمو عن الصغائر والحرص على الاحتواء كأى أب حريص على أبنائه مهما بلغ بهم الشطط.
رمانة الميزان
وخلال تلك الرحلة، كان رفعت السعيد القائد الحزبى المرموق.. رمانة الميزان في حزب التجمع.. أيقونة اليسار المصرى.. خبير العمل التنظيمى الذى لا يشق له غبار.. المفكر الواعى بأولويات العمل السياسى.. الباحث المدقق في مجالاتٍ عدة.. الإنسان ثم الإنسان والإنسان بكل معنى الكلمة وتجلياتها ومعانيها.. وغير ذلك كثير وكثير. إنه واحد من عظماء مصر، قضى عمره كله، يبحث وينقب ويكتب في مجالات السياسة والثقافة والفكر والتنوير والوطنية المصرية، ولا يمكن أن ننسى دوره في كشف حقيقة الإخوان وتعريتهم أمام الرأى العام، وسيظل التاريخ شاهدًا على أن رفعت السعيد خاض معركته ضد الإخوان قبل الزمان بزمان، وفى وقتٍ كان آخرون يهللون لهذه الجماعة المارقة، ولا ننسى أيضًا أنه صاحب مصطلح المتأسلمين، فهو أول من أطلقه على هؤلاء الإرهابيين الذين دأبوا على خلط الدين بالسياسة، وله في ذلك بحث متكامل يتضمن مراجع عديدة في اللغة العربية وأصل الكلمات، وقد أودع بحثه هذا في مجلس الشورى عندما كان عضوًا به.
وعلى ذكر الشورى، فقد مارس دوره كمعارض بمسئولية كبيرة تجاه الوطن والمواطن، ولم يمنعه تعيينه في الشورى من ممارسة هذا الدور، حتى أنه كان بآرائه وأفكاره التى يطرحها خلال جلسات المجلس، يسبب إزعاجًا لرئيس المجلس آنذاك صفوت الشريف. حكى لى الراحل الوطنى الكبير محمد فريد خميس رئيس لجنة الصناعة في الشورى آنذاك أن الدكتور رفعت السعيد تشاور معه لإعداد مذكرة حول خطوات ضرورية لإنقاذ الصناعة المصرية، ووقع عليها عشرون عضوًا يتقدمهم فريد خميس، وعندما تم تقديمها، فوجئ بصفوت الشريف يقول له: «هو الدكتور رفعت بهت عليك؟»!.
هذه الواقعة تحديدًا، إلى جانب ما كانت تنشره الصحف من وقائع للجلسات العامة، تؤكد ما هو مؤكد: التعيين لم يكن أبدًا عائقا بين الراحل العظيم وبين أداء دوره كمعارض يعرف معنى المعارضة الوطنية.
دروس العمر
دروس كثيرة تعلمتها منه.. أذكر منها عندما توجه السادات إلى تل أبيب، أصدر التجمع عدة بيانات ووثائق، وطلب منى إعداد كتيب يرد على مؤيدى الزيارة، وصممت غلافًا عبارة عن نجمة داود تخرج منها رأس توفيق الحكيم «الذى أعلن يومها تأييده لخطوات السادات»، وذهبتُ فرحًا إلى الدكتور رفعت أحمل نسخًا من الغلاف بعد طباعته، فإذا به ينزعج ثم يتكلم بهدوء: «الحكيم أيد سفر السادات إلى إسرائيل، لكن ده مش معناه إنه صهيونى.. الحكيم برضه قيمة كبيرة في المجتمع.. اعمل غلاف غيره وقطع ده»... وبعدها بيومين اصطحبنى إلى مكتبه بـ«الأهرام»، لأجد نفسى وجهًا لوجه أمام توفيق الحكيم بعد أن دخل «السعيد» غرفته، وحكى له ما حدث وتركنى وخرج، وبدأ الحكيم يتحدث: «تأييدى للزيارة لوقف سيل الدم، لكن موقفى ثابت من الصهيونية وأعلم أن إسرائيل عدونا الرئيسى»، وتكلم توفيق الحكيم كثيرًا، وخرجت من مكتبه، أكن كل احترام وتقدير لشخصية توفيق الحكيم ومنهجه كواحد من الكبار الذين أثروا في العقل العربى، بعيدًا عن تهورات الشباب وطريقة تفكيرهم.. وكان ذلك درسًا علمنى إياه رفعت السعيد: «الأحكام القطعية والمزايدات الشبابية على خلق الله.. فيها ضرر بالغ بالجميع».
ذات مرة، قررنا في «الأهالى» الاستغناء عن محررة تحت التمرين لأنها اعتادت أن تأتى بموضوعات سبق نشرها في صحف أخرى، لكنها بدلًا من أن تتعظ وتتعلم الدرس، بدأت في شن حملة على عدد من قيادات الحزب والجريدة، وخصت رفعت السعيد بالهجوم الأكبر، ورأى رئيس التحرير وقتها أن ننشر بروازًا، نكتب فيه: «تحذير.. فلانة الفلانية لم تعد تعمل بالجريدة وانتهت علاقتها نهائيًا بنا»، لكن رفعت السعيد رفض ذلك بشدة.. لماذا؟.. قال السعيد: «ماتنسوش إنها بنت، والناس ممكن تفهم أن استبعادها تم لأسباب أخلاقية.. كلنا عندنا بنات ولازم ندارى على بناتنا».
في كتابه «مجرد ذكريات»، نالنى شرف كتابته عنى عندما سرد حكايات من دفتر حزب التجمع، ولكن تبقى صفته الإنسانية تعلو على كل الصفات، وهو ما لا يدركه ولا يفهمه كثيرون ممن اختاروا كيل الاتهامات دون وعى أو تمحيص.
باقٍ أنت بيننا إلى يوم الدين مهما طال الرحيل زعيمنا خالد محيى الدين، وباقٍ أنت قائدنا ومعلمنا رفعت السعيد، نتذكرك ويتذكرك كثيرون كلما كان الحديث عن هموم الوطن.. سلامًا على روح كلٍ منكما وسلامًا على الصابرين.
 

خالد محيي الدين والسعيد