أما الشمس بالنهار أو القمر بالليل؟ ألا ترى شيئًا آخر في السماء؟ يا سيدي، هناك نجوم وكواكب أخرى، لكن العقل الصحراوي تأسره الأحادية، وهي مرض أو نزعة سهلة ومرعبة، تحصر الحياة في “إما أو”، وذلك من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيدًا.
إما أن تكون "كلثوميًا" فتستمع لأم كلثوم، أو "فيروزيًا" فتستمع لفيروز، أو تتبع "عبد الحليم حافظ" أو "فريد الأطرش"، وصولًا إلى "عمرو دياب" أو “تامر حسني”، إما أن تقرأ لـ"نجيب محفوظ" أو لإحسان عبد القدوس، إما "العقاد" أو “طه حسين”، إما أن تحب "الصيف" أو "الشتاء".
ولكن يمكن الجمع بين ليل الصيف ونهار الشتاء، كما أن للخريف جماله أيضًا. إما حضارة الغرب أو “الشرق”، وهكذا، يظن هذا العقل أن اللون الواحد والطعم الواحد والفكر الواحد والذوق الواحد، وأي "واحد"، هو الحق والحقيقة والراحة المطلقة، من هنا يأتي النفور من التعدد والتنوع، وتتم محاربة الاختلاف والمختلف، وتتكون نفسية المتطرف، بدءًا من "الزي الواحد" مرورا ب "الشبه الماسخ "وصولًا إلى إنتاج "نسخ مكررة".
ويشتد عود الإرهابي المنتمي إلى “جماعة واحدة ناجية”، وهنا تتحول الأحادية من ثقافة إلى نفي ورفض الآخر والأقليات والتقاليد المنتمية لبيئات أخرى، ولعل هذا هو سبب الشعور الكامن عند البعض برفض الحضارة المصرية القديمة ووصمها بالفرعونية، وقد كانت قوتها في امتلاك حضارة متنوعة المصادر متعددة الاتجاهات، رافضة للأحادية الصماء الصامتة، بدءًا من اللاهوت إلى الفن، ومن العمارة إلى الفكر، هذا النفي يأخذ أيضًا شكل "دفن" لهذه الحضارة العظيمة، وكل الحضارات التي تحمل بذور تعددية تتيح الحياة والنمو للجميع، تعطي مساحة للوجود والبوح للشك والبحث، لا تمنع كتابًا ولا رواية ولا فيلمًا ولا صورة لأنها تخالف "الحد الواحد المحدود المسموح". تخرج من دائرة الأبيض أو الأسود، وتدرك قوة اللون الرمادي وأنه الأقرب إلى نفسية وفكر الإنسان الطبيعي، ولابد أن ندرك أن خطورة الأحادية تظهر عندما تتحول من ثقافة وأسلوب حياة إلى سياسة باطشة شرسة ، إذا امتلكت سلاحًا، تصبح قادرة على تنفيذ إبادة جماعية لكل مختلف بعيد عن هذا "الواحد"، كما فعل العثمانيون مع الأرمن في الحرب العالمية الأولى، وتنظيم داعش مع الأيزيديين في العراق.
وعلى مستوى فني بسيط، نجد أن كسر الأحادية يزيد من بهجة الحياة ويكشف عن جوانب جميلة فيها. انظر مثلًا عندما تم كسر أحادية أدوار المجرم التي قدمها كثيرًا الفنان القدير محمود المليجي في عشرات الأفلام، فعندما خرج من هذا الإطار الواحد وقدم دور الفلاح "أبو سويلم" في فيلم "الأرض"، كيف تجلت ولمعت وتعملقت موهبته خارج الدور الواحد، بل إن ثقافة البعض في تغيير "الكرير" الواحد تجعل للحياة معاني وطعمًا أفضل. فإذا كان الإنسان يعيش مرة واحدة، عليه أن يستمتع ويستفيد بكل ما تتيحه الحياة من فكر وفن وجوانب ليست "واحدة".