كان تحالف حزب الوفد، المصنف أنه ليبرالي، مع تنظيم الإخوان المسلمين في عام 1984، إيذانا بخروج المفكر فرج فودة من عباءة الوفد والسير في طريقه منفردا بدون حراسة تصيبه سهام النقد من هنا وهناك، حيث اختار الدخول في "عش دبابير" والاختلاف مع من لا يقبلون معارضة أو مخالفة، يصنفون الإنسان إلى صنفين معنا أو ضدنا والصنف الثاني مهدور دمه.
وفي طريقهم "الإخوان" لإهدار دماء من يخالفونهم فإنهم يسوقوا للرأي العام الأسباب التي تمنحهم الموافقة التي يصدرون بعدها الأحكام لينفذوها بأي وسيلة، اغتيال معنوي أو مسلح أيا كانت الطريقة لإسكات هذا الرأي المخالف.
وقد روى فودة في كتابه "حوار حول العلمانية" طرفة حول الحياة السياسية في مصر وجهل الشعب ببعض المصطلحات في بداية القرن العشرين، قائلا "عندما رشح أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد نفسه لعضوية البرلمان، تفتق ذهن منافسه عن حيلة طريفة فقد أخذ يجوب القرى والكفور معلنا أن أحمد لطفي السيد والعياذ بالله ديمقراطي".
ولأن الجهل بهذه المصطلحات كان سائدا، فقد أخذ المستمعون يرددون وراءه عبارات من نوع - أعوذ بالله، أستغفر الله - بينما انبرى أنصار لطفي السيد لإنكار الأمر، مؤكدين أنه من أسرة مؤمنة لم يعرف عنها خروج على العقيدة أو انحراف عن الملة.
وكان موقف المدافعين عن لطفي السيد عصيبا وضعيفا أمام عبارات المنافس الحاسمة؛ لقد سمعته بأذني يردد ذلك وأقسم بالله أنني لو سمعت هذا من غيره عنه لأنكرته، وها أنذا أعرض الأمر عليكم، فإن كنتم تريدون ترك الإسلام واعتناق الديمقراطية فانتخبوه هذا شأنكم وقد أبلغت اللهم فاشهد.
حدث هذا قبل أيام من عقد أحمد لطفي السيد لمؤتمر شعبي في الدائرة ولغيابه عن القاهرة فإن شيئا من حديث المنافس لم يصل إليه، وفي اليوم الموعود احتشدت الجموع واختصر أحمد لطفي السيد حديثه معلنا ترحيبه بتلقي الأسئلة التي دارت جميعها حول مضمون واحد هو: هل صحيح ما يشاع عن أنك ديموقراطي ؟.
وبهدوء العلماء ووقار الأساتذة رد أحمد لطفي السيد : نعم أنا ديموقراطي وسأظل مؤمنا بالديموقراطية حتى النهاية.
وكانت وسيلة التيار الديني في مصر لشيطة فودة هو أنه مناصر للدولة العلمانية على حساب الإسلام، وتبنيه "فكر الإلحاد والماسونية، في مواجهة من يسعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية" وفق زعمهم، حيث تجسدت هذه الفكرة على صفحات مجلة "الإعتصام" الناطقة بلسان جماعة الإخوان في عدد نشر في أبريل 1987 تحت عنوان "الدكتور فرج.. خرج.. خرج.. خرج".
يقول كاتب التقرير إنه "في حين أعلنت الأحزاب الخمسة بمبادئ الشريعة الإسلامية كشرط قانوني نص عليه صراحة بالمادة الرابعة من القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسية، وقف الدكتور فرج فودة يصيح بأعلى صوته معلنا إعتراضه على تطبيق الشريعة الإسلامية وجعل من هذا الموضوع قضيته الأولى والأخيرة واتخذ من الشيخ حازم أبو إسماعيل رمزا للخصومة وهدفا حيا للهجوم عليه باعتباره من أقوى وأبرز من تبنى قضية وأبرز من تبنى تطبيق الشريعة الإسلامية داخل البرلمان المصري وخارجه".
وأضاف "كان شعار العلمانية الذي يقول بأنه لا دين في السياسية ولا سياسة في الدين هو الشعار الذي رفعه والسلاح الذي شهره في وجه كل من تصدى له أو قف أمامه".
وأشار الكاتب إلى أنه "كان طبيعيا أن ينال موقف الدكتور فودة إعجاب أو تأييد بعض أصحاب الرأي والفكر، وإن اختلفت أسباب هذا الإعجاب أو التأييد من شخص لآخر ومن فريق لفريق".
وتابع "فمنهم من تعجبه الصراحة في إبداء الرأي أيا كان هذا الرأي، ومنهم من جاء فكر فودة متفقا مع فكره الملحد أو الماسوني الذي يهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام الأديان السماوية كإجراء مرحلي وخطوة أولى لتعميم الصهيونية ومنهم من تفزعه تعاليم الإسلام الحنيف التي تحرم الخمر وتقطع يد السارق وترجم الزاني".
وعلى الرغم من كل هذه الاتهامات والافتراءات التي ساقتها مجلة الاعتصام الناطقة بلسان تنظيم الإخوان فإن آراء الدكتور فرج فودة تحالف كل هذه الافتراءات، وبعد اغتياله أعادت مجلة آخر ساعة نشر رأيه صراحة في عدد من القضايا الخلافية أبرزها "العلمانية" وأوردت المجلة في عددها الصادر في يونيو 1992 آراء فودة في "الدولة الدينية والعلمانية وحرية الاعتقاد" وهي أكثر القضايا المثيرة للجدل في المجتمع المصري.
وعن الفرق بين الدولة العلمانية والدولة الدينية يقول فودة "هو فرق مرجعي بمعنى أن مرجعية الدولة المدنية هي الدستور والقانون، ومرجعية الدولة الدينية القرآن والسنة، أو بمعنى أكثر دقة فإن مرجعية الدولة الدينية فتوى المفتي، وعندما يرجع الحكم إلى فتوى المفتي تأخذ الدولة الشكل الديني وعندما يرجع الحكم إلى مرجعية مدنية "دستور وقوانين" فهو حكم مدني وليس هناك ما يمنع أن تكون للدساتير والقوانين جذور دينية ولكن لا توغل في الخصوصية الدينية بحيث تحضع المسألة لأهواء الفقه والفقهاء".
حرية الاعتقاد معناها، حرية الإسلام وحرية الإلحاد وحرية المذاهب، وحق الإنسان في العمل وفي إبداء الرأي وفي الزي.
إذا كانت العلمانية تعالج مشاكل المجتمعات في كثير من البلاد، فالعلمانية مسألة ضرورية جدا للدول التي تتعدد فيها الأديان والمذاهب والأفكار.
والعلمانية غير متضادة مع الدين أصلا وإذا كان العلمانية مفهومها العالمي فصل الدين عن الدولة فإنها في عالمنا العربي تعني فصل الدين عن السياسة لأنني أعتقد أنه في كل البلاد العربية أو دول الشرق الأوسط فإنه لا أحد يعترض على دعم الدولة للمؤسسات الدينية ولا احتفال الدولة بالأعياد الدينية أو إذاعة صلاة الجمعة، وهناك قدر من تداخل الدين مع الدولة معقول جدا.
المقصود بالعلمانية في شرقنا العربي هو أن للأديان كل الاحترام إنما المرفوض هو الخلط بين أوراق السياسة وأوراق الدين خصوصا أن هذه المسائل فيها قدر من الاجتهادات واسع جدا، وأكد أنه عندما يدخل الدين في السياسة فإنه ذلك يمزق ويخرب أي وطن.
الجهل عدو أعمى
وخلال عقد التسعينيات جرت أكثر من محاولة اغتيال لرجال الفكر والسياسة في مصر، وبعد اغتيال "فودة" في عام 1992 جرت محاولة للإجهاز على أديب نوبل نجيب محفوظ في عام 1994 إلا أنه نجا منها، ولكن المفارقة أن المتهمين باغتياله أيضا لم يقرأوا أي من رواياته التي أرادوا قتله بسببها.
وقد روى الكاتب محمد سلماوي في إحدى اللقاءات التلفزيونية قبل حوالي عام، تفاصيل لقائه بالمتهم في اغتيال نجيب محفوظ قائلا " سألته عن قراءاته، فقال لي إنه كي ينضم إلى الجماعة الإسلامية قرأ 20 كتابًا، منها كتب لسيد قطب وحسن البنا، لكنه لم يقرأ لنجيب محفوظ"، وهو نفس ما جرى مع قتلة فرج فودة لم يقرأوا له كتابا أو مقالا.
قضية فرج فودة
وتكشف اعترافات مرتكبي جريمة الاغتيال مدى الجهل الذي يتملكهم، حيث اعترف القاتل عبدالشافي رمضان أن أبو العلا عبدر ربه هو من زوده بالسلاح والأدوات المستخدمة وحدد له طريقة التنفيذ والموعد، وعندما سأله المحقق بناء على أي نص قتلت الرجل فقال إنه قتله بناء على فتوى للدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد، فسأله المحقق ولكنك قلت في التحقيقات إنك أمي لا تقرأ وتعمل ببيع السمك فكيف قرأت الفتوى فرد قائلا لم أقرأ ولكنهم قالوا لي.
بدأت الجريمة في السادسة من مساء السادس من يونيو 1992 حينما خرج المفكر فرج فودة من مكتبه بصبحه ابنه أحمد وصديقه وانتظرا دقائق حتى يحضر السائق السيارة، وهي الثغرة التي نفذ منها الإرهابيان "عبد الشافي" و "أشرف" لينفذا جريمهم حيث انتظرا "فودة بدراجتهم النارية التي سُرقت لتنفيذ الاغتيال في الاتجاه المعاكس لشارع أحمد تيسير ناحية تقاطع مترو مدينة نصر والدراسة.
وبعدما ضج المكان بأصوات الرصاص هرع محمد فاروق سائق الدكتور فودة خلال خلف الإرهابيان وطاردهم لمدة عشر دقايق وألقى أمناء الشرطة الموجودين في ميدان "الميرغني" القبض على عبد الشافي أحمد رمضان، وهرب أشرف إبراهيم صالح إلى مترو الدراسة.
وقال المتهم وأضاف أنه استند إلي فتوي صادرة عام 1986 من الشيخ عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية، وتبيح الفتوي قتل المرتد عن الإسلام، وأضاف المتهم أنه علي اقتناع بأن فرج فودة مرتد، لأنه يدعو إلي عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، ويعتبر العودة إلي التمسك بها أموراً رجعية وتخلفاً.
وفي جلسات التحقيق التالية أدلي المتهم باعتراف جديد مغاير للاعتراف السابق، حيث قرر أن سبب قيامه بعملية الاغتيال ليس إطلاعه علي فتوي تبيح ذلك، ولكنه تلقي تكليفاً من صفوت عبدالغني أحد قيادات الجماعة الإسلامية، وأضاف أن صفوت عبدالغني محبوس في قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك، وكلف المحامي منصور أحمد منصور الذي يحضر معه التحقيقات، بنقل تعليمات باغتيال فرج فودة.
وواصل اعترافاته قائلاً: إنه حصل علي الرشاش الآلي من المتهم محمد أبوالعلا، وتلقي تدريبات رياضية عنيفة علي يد المتهم محمد إبراهيم، وتمكن من الحصول علي الدراجة البخارية من المتهم جلال عزازي، وكان مختبئاً مع شريكه الهارب عند المتهمين وليد سعيد، وحسن علي محمود، وأشرف عبدالرحيم، وقام المتهم محمد عبدالرحمن برصد تحركات الكاتب فرج فودة مع المتهم علي حسن، وذلك لاختيار أفضل مكان مناسب لتنفيذ عملية الاغتيال.
واستغرق الجناة وقتا في البحث عن طريقة للتنفيذ كان من ضمنها خطفه وحرقه حيا، لكنهم استبعدوا هذه الطريقة خشية من فشلها باحتمالية انقاذه من المارة أو جيرانه، كما جرى نقاش حول طريقة أخرى للتنفيذ باستخدام السلاح الأبيض؛ وطعن فوده حتى الموت؛ ولكن تم استبعاد الطريقتين والاستقرار على قتله بواسطة الرصاص.
وكان الإرهابى أبو العلا عبد ربه عضو الجماعة الإسلامية هو من اتخذ قرار اغتيال فرج فودة، بعد حصوله على فتوى من الجماعة، بأن فرج فوده مرتد عن الإسلام.
وخرج من السجن بعفو رئاسي من محمد مرسي، بعدما أدين بأنه أمد وزود منفذي الجريمة بالأدوات والسلاح المستخدم في الجريمة وفي مارس 2017 عاد وتردد إسم المفكر فرج فودة بعد مقتل قاتله في سوريا خلال غارة جوية نفذها طيران الجيش السوري ضد الجماعات الإرهابية.
وفي إحدى جلسات المحاكمة طلب محامي المتهم الأول عبدالشافي أحمد رمضان سماع شهادة الشيخ محمد الغزالي، لسؤاله عن رأيه الشرعي في قيام آحاد الناس بقتل المرتد عن الإسلام، وأكد في فتواه المثيرة للجدل، أن إقامة الحدود من واجب الحاكم، وأن قيام آحاد الناس بإقامة الحدود ومن بينها قتل المرتد، يعد افتئاتاً علي سلطات الحاكم، ولكن الإسلام توجد به عقوبة علي هذا الافتئات.
وبعد انتهاء جلسات المحاكمة أصدرت المحكمة حكمها بإعدام المتهم الأول عبدالشافي أحمد رمضان، وتم تنفيذ حكم الإعدام، وعاقبت بالسجن المتهم محمد أبوالعلا لدوره في توفير السلاح، وبرأت باقي المتهمين.
وأفرجت وزارة الداخلية عام 1993 عن عدد من المتهمين هم وليد سعيد، ومحمد عبدالرحمن، وحسن علي محمود، وفي عام 2003 أفرجت عن جلال عزازي، وأشرف عبدالرحيم وباقي المتهمين عدا محمد إبراهيم الذي تم الإفراج عنه عام 2005، وصبحي أحمد منصور في عام 2006.