لا أظنُّ أن القضية التي طرحها الإعلامي تامر أمين جديدة على المجتمع المصري والمتخصصين في التعليم. وهي قضية دائما ما تُطرح خلال العقود الأخيرة في جلبة وصراخ من غير المتخصصين وبشكل مزيف ومغلوط.
ولو قمنا بمكاشفة اجتماعية شفافة لعرفنا أنَّ ما ذكره المذيع جاء على هوى عائلات كثيرة، كما أنها مطالب متكررة منذ فترة من طرف مجموعات الأمهات (الماميز) الموجودة على منصات كثيرة وتضم آلاف السيدات، غالبيتهن لديهن أبناء في المدارس بمراحل تعليمية مختلفة. وهنّ يرددن نفس كلام المذيع الشهير في دردشاتهن وجلساتهن الخاصة والعامة. قناعاتهن أن تخفيف المناهج الدراسية والتخلص من بعض المواد، خاصة الأدبية التي يبذلن فيها مجهودًا مضاعفًا للحفظ، أمر في صالح الأبناء خاصة أن المنظومة التعليمية أرست قواعدها على حفظ المعلومات من أجل الامتحانات وتمّحي بمجرد انتهائها بعد ذلك دون فائدة.
هذه الصورة العامة للتعليم الذي يحتاج في كلمة إلى "نفضة" تتضمن تقييما ومراجعة وإصلاحا للمنظومة التربوية العرجاء. وأرى أن غالبية الأبناء والآباء ضحايا في دائرة مشتعلة تعيد نفسها عبر الأجيال. أما الخطأ، فعندما يعاد إنتاجه قد يستحيل البحث عن المخطئ الذي تسبب فيه، لكن الأجدى البحث عن الإصلاح وعلى وجه السرعة. وعادة ما يقود الإعلام الرأي العام ويدافع عن الهوية الوطنية للمجتمع ويثبت ركائزها ويقوّمها من خلال تعليم الأجيال ثقافتهم ورموزها وجغرافية الوطن وأهميتها، ناهيك عن التاريخ والحضارة والآداب والفنون. لكنَّ المذيع سار وفق رغبات الجمهور ليحظى بالمزيد من الشعبية، متناسيا أنها رغبات مدمرة للإنسان والهوية والمستقبل.
ومن الوارد أن تكون تلك آراؤه لكن عليه أن يبقيها لنفسه ويتحدث في قضية كهذه بمهنية واحتراف، ويستضيف متخصصين لمناقشتها بموضوعية، خاصة إذا كانت آراؤه أقلّ من أن تصْلُحَ لبناء إنسان صالح ملمٍّ بتاريخه وأدبه وفنونه التي هي أيضا تراث مشترك مع الإنسانية.
ولعل قضية جوهرية كالتعليم لا يجب أن تُؤخذ فيها آراء الأهالي، مع ذلك لا عيب في الإنصات إلى ممثليهم، أو الملمّين منهم بالقضية وأبعادها، وليس أنصار الاستسهال الذين يهدفون فقط للحصول على الشهادة وبطريقة براجماتية مُخلّة بتكوين أبنائهم المعرفي وتمنعهم من بلورة شخصيات مزودة بفيتامينات المناعة، وهي الثقافة والحداثة والتنوير، حتى تكون قادرة على التصدي للجهل والشعوذة والإرهاب وإدراك ما يدور حولهم من تحديات سياسية واقتصادية وثقافية، قبل الشهادة والعمل؛ هذا أغلى ما يمتلكه إنسان ومواطن، وهو أمنه وأمانه الحقيقي وقوته ومناعته إذا مر لعصر التكنولوجيا المتطورة ومخاطرها!
إن قضية التعليم محورية في أولويات الشعوب وتعود بنا إلى صميم الهدف من التعليم الحقيقي الذي لا يغفل الثقافة العامة في سياق النظر إلى سوق العمل ومتطلباته. وصانعو السياسات والتربويون هم من عليهم التصدي لهذه القضية وليس من "هبّ ودبّ". ولا يصحُّ أن "جروبات الماميز" هي من تقرر المناهج، وأيضًا تنهي مهمة هذا الوزير أو ذاك وترضى عن أداء آخر، حتى أن الأيدي المرتعشة زادت وانتشرت وكأنها مهارة جديدة اخترعها الجهلة والانتهازيون لتسيير شؤون الإدارة على هواهم حتى يستمروا وتستمر مصالحهم ولا عزاء للمتخصصين!
وأستحضر في هذا السياق ما ذكره جبرا ابراهيم جبرا، المفكر الفلسطيني خريج جامعة هارفرد، عندما تحدث عن البعض الذين يتخرجون من مقاعد التعليم بمعدلات عالية (مجاميع) دون إلمام ثقافي، ووصفهم بالسُذّج واعتبرهم أداة تخريب سهلة للثقافة والفكر والأدب والفنون التي لا ترتقي الشعوب وحضاراتها بدونها. واستنكر أن يكون أصحاب المجاميع الكبيرة في تخصصات علمية مهمة لكنهم لا يسمعون الموسيقى، ولا يعرفون شاعرًا ولا يحفظون بيتًا واحدًا من الشعر ولم يطالعوا رواية ولم يحضروا فيلمًا أو مسرحية أو حفلًا غنائيًا، أو لم يخلطوا علبة ألوان ليحاولوا رسم لوحة. ويضيف جبرا أنه لا يفهم هؤلاء الذين بلا تاريخ ولا جغرافيا ولا تراث ولا شخصية أو هوية. إن الحياة في التفاصيل، في المشاعر والوجدان، في الذائقة الفنية والثقافية والإنسانية، وهي التي تصقل مواهب العلماء وتنقّي ضمائرهم.
إن الجامعات والمعاهد العريقة وكليات الطب والعلوم ومدارس الهندسة الأكثر شهرة في العالم تحرص أن تدِّرسَ طلابها العلوم الإنسانية. وهذا التكوين لا غنى عنه وهو ما يبدأ به الطالب سنته الأولى وجزءا من الثانية، قبل التعمق في تخصصه العلمي. ولم نسمع في الجامعات العلمية التي تحتل قمة الترتيب في العالم من يستنكر أو يستهجن كيف يدرس الطلبة عددا من المواد والساعات الإجبارية ليلموا بأهم العلوم الاجتماعية. لذلك، فإن إلغاء تدريس العلوم الإنسانية هو نوع من الجرائم التي توازي جريمة خيانة الوطن وهي جريمة لا تغتفر لأنها تشوه عقل كل طفل يولد على امتداد الأجيال المقبلة؛ فارفعوا أيديكم عن هذا الملف الخطير ولا تخرّبوا ما بقي من حاضر ومستقبل هذا الوطن!