يعود الديمقراطيون إلى شيكاغو هذا العام، وهم يواجهون مزيجاً معقداً من الترقب والرهبة، فالمدينة التي ستستضيف المؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 2024، تستحضر في الأذهان شبح عام 1968 عندما تحولت شوارعها إلى مسرح للفوضى والعنف خلال مؤتمرهم آنذاك.
في ذلك العام، اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، حيث ملأت سحب الغاز المسيل للدموع الهواء، وانهالت هراوات الشرطة على المتظاهرين. المندوبون كانوا يتصارعون وسط مشاهد فوضوية عكست الانقسامات العميقة في المجتمع الأميركي بين جيل الشباب الثائر والمؤسسة السياسية التقليدية، وبين مؤيدي الحرب في فيتنام ومعارضيها.
قبل ذلك العام، كانت شيكاغو تُعد القلب النابض للمؤتمرات السياسية، حيث استضافت عدداً من المؤتمرات الانتخابية يفوق أي مدينة أخرى في البلاد. بفضل موقعها الاستراتيجي وجاذبيتها كمركز للمؤتمرات، عُقدت فيها 9 مؤتمرات ديمقراطية و14 مؤتمراً جمهورياً. لكن أحداث 1968 تركت ندوباً عميقة، ليس فقط في المدينة ولكن أيضاً في الحزب الديمقراطي الذي لم يعد إلى شيكاغو حتى عام 1996، حيث حرص على تجنب المواقع التي شهدت العنف في السابق. أما الجمهوريون، فلم يعودوا إلى شيكاغو منذ ذلك الحين.
والاثنين، يجتمع الديمقراطيون في المدينة في ظروف لا تخلو من التحديات، حيث يقع مركز يونايتد الذي يستضيف فعاليات المؤتمر على بعد ساعة تقريباً من ولايتي ويسكونسن وميشيجان، وهما ولايتان محوريتان في الانتخابات الرئاسية.
ومع انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الرئاسي المقبل، يواجه الحزب الديمقراطي اختباراً صعباً للحفاظ على تماسكه وتفادي تكرار سيناريو عام 1968. ورغم المخاوف من حدوث انقسامات داخلية، فإن حملة نائبة الرئيس كامالا هاريس تمنح الأمل لقواعد الحزب، بعد أن جمعت حولها دعماً كبيراً وجددت التفاؤل بقدرة الحزب على خوض الانتخابات المقبلة بحظوظ أكبر.
في شيكاغو، يسعى الديمقراطيون إلى تحويل هذا الزخم إلى وحدة تضمن لهم الفوز في معركة سياسية قد تكون من الأكبر في تاريخهم الحديث، إلا أن المخاوف من الانقسام بشأن سياسات إدارة بايدن-هاريس تجاه الحرب في غزة، والاحتجاجات المرتقبة التي ستقام في ساحة تبعد نصف ميل عن مركز المؤتمر، تثير القلق من احتمال تكرار مشاهد الفوضى التي شهدها مؤتمر 1968.
لكن توماس بوين، الاستراتيجي في الحزب الديمقراطي في شيكاغو، لا يرى أن هذه المخاوف مبررة. وقال في حديث مع "الشرق" إن "المقارنات مع عام 1968 لا تنطبق على هذا الوضع. لقد استضافت شيكاغو بنجاح مؤتمراً في عام 1996، مما يعد دليلاً مباشراً على أن الديمقراطيين وسكان شيكاغو قد تجاوزوا تلك اللحظة التاريخية."
كان من بين الدوافع الرئيسية للتظاهرات في شيكاغو عام 1968 هو الغضب العارم تجاه الحرب في فيتنام التي أصرت إدارة الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون مواصلتها، إلى جانب ذلك، كانت الاحتجاجات تعكس مطالب أعمق بالحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، حيث استغل المتظاهرون المؤتمر الوطني الديمقراطي كمنصة لتوجيه رسالة قوية ضد السياسات الحكومية التي اعتبروها قمعية وتعزز الفوارق الاجتماعية.
ويرى بوين، الذي يعمل على الحملات الانتخابية الديمقراطية منذ عام 2004، أن هناك فارقاً تاريخياً في هذا المؤتمر يتمثل في "وجود وحدة كبيرة في الحزب الديمقراطي اليوم خلف هاريس وضد الرئيس السابق دونالد ترامب أما في عام 1968، كان الناخبون معارضين بشدة لحرب فيتنام، في حين كانت قيادة الحزب مصممة على الاستمرار في المسار."
ورغم أن السباق الرئاسي الذي أعيد تشكيله بأحداث دراماتيكية خلال الأسابيع الأخيرة، لا يزال متقلباً، إلا أن الديمقراطيين منذ إعلان بايدن انسحابه من السباق لصالح نائبته هاريس، تمكنوا من تحقيق تقدم في استطلاعات الرأي مكنهم من تقليص الفجوة مع ترامب.
واكتسبت هاريس نقطتين مئويتين على المستوى الوطني، فيما تتصدر الآن في متوسط استطلاعات الرأي الوطنية.
وفي الولايات المتأرجحة، اكتسبت هاريس متوسطاً قدره 2.1 نقطة منذ 21 يونيو، وهي تتقدم في اثنتين من أصل سبع من هذه الولايات، بحسب نموذج استطلاعات واشنطن بوست.
وتتقدم نائبة الرئيس في ويسكونسن وبنسلفانيا، وأغلقت الفجوة بشكل كبير في ميشيجان، حيث يتقدم ترامب الآن بأقل من نقطة مئوية واحدة.
ورغم اعتقاده بأن هاريس ستستفيد ولو جزئياً من وحدة الصف الديمقراطي خلفها في المؤتمر الوطني في استطلاعات الرأي، إلا أن مات بينيت، نائب مساعد الرئيس في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون والخبير في الحملات الانتخابية، يشكك في استمرارية هذا الدعم طويلاً.
ويتوقع "بينيت" أياماً أكثر صعوبة أمام هاريس في المستقبل، فـ"نائبة الرئيس لم تجر بعد مقابلة حقيقية أو مناظرة. وعندما تفعل، من شبه المؤكد أنها ستفتح الباب للانتقادات بطرق لا تحدث عند قراءة الخطب في التجمعات. كما أن ترامب ماهر في استعادة الأضواء عندما يفقدها".
ومنذ أن أصبحت كامالا هاريس المرشحة الفعلية للحزب الديمقراطي لم تعقد مؤتمراً صحفياً رسمياً، ولم تشارك في أي مقابلة مع وسائل الإعلام، منذ حصولها على الترشيح في تصويت "افتراضي". هذا الغياب الملحوظ عن اللقاءات التلفزيونية والمؤتمرات الصحفية أصبح موضع انتقاد من ترامب، الذي استخدم هذا الصمت كذريعة لمهاجمة منافسته، متهماً إياها بإدارة حملة من "الخفاء".
وفي يوليو، بعد محاولة اغتيال الرئيس السابق بأيام، تمكن ترامب من استغلال المؤتمر الوطني الجمهوري في ميلووكي، بإظهار الوحدة خلفه، وإحكام قبضته على الحزب والتغلب على الأصوات المعارضة لسياساته وفرض أجندته وبرنامجه.
"رائحة النصر مغرية للغاية"، هكذا يصف البروفيسور لاري ساباتو, مؤسس ومدير مركز جامعة فيرجينيا للسياسات، سعي الديمقراطيين وحماستهم لتنظيم مؤتمر ناجح "ليختتم شهراً مفيداً للغاية بالنسبة لهم منذ انسحاب بايدن.. فهم يعتقدون الآن أن لديهم فرصة منطقية وجيدة للفوز".
ويتفق الاستراتيجي الديمقراطي توماس بوين مع ساباتو في شعور الديمقراطيين المعزز بفرص الفوز، حيث يرى أن هاريس تمكنت من الحصول على دعم الشرائح الانتخابية التي تمكنها من التقدم على المستوى الوطني وفي الولايات المتأرجحة، "الشباب، والأقليات، والنساء، وكبار السن يشكلون كتلة كبيرة في أي ولاية.. هاريس حصلت على اهتمام الناخبين الذين يقررون الانتخابات في الولايات التنافسية، لذا فهي في وضع رائع لتقديم برنامجها، وعرض رؤيتها للمستقبل، وتذكير الناس لماذا رفضوا منح ترامب فترة ولاية ثانية".
ويعرب مندوبون حضروا من مختلف الولايات إلى شيكاغو عن قلقهم المستمر من حدوث مفاجأة في أكتوبر بعد المؤتمر، تشبه ما حدث في انتخابات 2016 حينما أعاد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي فتح التحقيقات في استخدام المرشحة الديمقراطية السابقة (أمام ترامب) هيلاري كلينتون للبريد الإلكتروني أثناء توليها منصب وزيرة الخارجية ما أثر على وضعها في السباق الرئاسي سلباً.
وحول ما إذا كان يعتقد أن المؤتمر يمنح هاريس دفعة في الاستطلاعات، قال البروفيسور "ساباتو" الذي يدير موقع "كريستال بول" الرائد في التنبؤ بالانتخابات إن "المؤتمرات لم تعد ذات تأثير في توجهات الرأي العام وأصبح مردودها بالكاد يُلاحظ، حيث أصبحت أحداثاً متوقعة بدون مفاجآت."
ويشير ساباتو إلى أن "ترامب لم يحصل على الكثير من النتائج الإيجابية بعد المؤتمر الجمهوري، وسأكون متفاجئاً إذا حصلت هاريس على أي شيء يذكر".
ويبدي أنصار الحزب الديمقراطي مخاوف من أن الأوضاع قد تكون بعيدة عن الاستقرار، فالحرب في غزة لم تصل بعد إلى نهايتها، والاضطرابات المتصاعدة في الداخل تثير قلقاً متزايداً خاصة مع ترقب عودة الطلاب إلى الدراسة، واحتمالات تجدد الاحتجاجات في الحرم الجامعي.
وخلال المؤتمر، يتوقع أن تشهد شيكاغو احتجاجات واسعة من منظمات تعارض بشدة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. هذه الاحتجاجات، التي تقودها تحالفات تضم أكثر من 150 منظمة مؤيدة لـ"للفلسطينيين" ومناهضة للحرب في غزة، تهدف إلى الضغط على إدارة بايدن لوقف إطلاق النار وإنهاء المساعدات العسكرية لإسرائيل كما يقول منظموها.
وتقدر بعض المنظمات التي تنسق للتظاهرات أن يشارك في "المسيرة" المقررة في اليوم الأول من المؤتمر ما بين 30 إلى 40 ألف شخص.
على الرغم من أن المنظمين حصلوا على تصريح للاحتجاج في ساحة "يونيون بارك"، التي يبعد نصف ميل عن موقع المؤتمر، إلا أنهم أعلنوا في تصريحات صحفية إصرارهم على الاقتراب أكثر من الحدث لضمان أن تصل رسالتهم بشكل مباشر إلى قادة الحزب.
ويجد البروفيسور لاري ساباتو، صعوبة في معرفة مصير الزخم حول هاريس أو ما قد تسببه لها الاحتجاجات في المؤتمر الوطني الديمقراطي من أضرار، معلقاً: "من المستحيل تماماً معرفة ما إذا كان الزخم يستمر. فكر في الصيف الماضي، من إدانات ترامب إلى محاولة الاغتيال وانسحاب بايدن، ويمكنني الاستمرار في سرد الأحداث من يعرف ماذا يحدث بعد ذلك؟".