الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

تامر أفندي يكتب: الشريعي والشحات والكثير من الحكايات

عمار الشريعي
عمار الشريعي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كل إنسان في الحياة يحتاج إلى من يكتب عنه.. من يُذكره في ملأ.. من يعاود ذكر حكايته على مسامع الأجيال.. يفرح إذا سمع ذلك حيًا، ويبتهج أكثر إذا وصلته تلك الرسائل في السماء.
لكم تأملت في الصورة.. وتساءلت أيهم أهم في الحكاية؟! صاحبها أم من التقطها أم من شاهدها؟.. ورأيت أن المتفحص أكثرهم متعة وأصدقهم تعبيراً؛ إذ إن زوايا الرؤية والرأي أمامه مفتوحة.. لذلك من الممكن أن يأتي بوصف لم تصل إليه أعين صاحبها ولا ملتقطها.

في قريتنا كان القيظ يعتصر حناجر الروح، وماء الصنابير لم يكن يروي الظمأ، وكانت الحكايات كثيرة عن سبيل ماء خارج القرية، عذب أثلجته نسائم الشجر، لكن أحداً لم يكن يجرؤ على المخاطرة، إذ أن من بين الحكايات أن هناك جنيين لعاشقين قتلتهما الكلمة في طريق سبيل الماء، سعيد الشحات واحد من الذين حملوا على أكتافهم المخاطرة واستطاع أن يتخطى خطر المجهول ويعود بالحكايات من السبيل، كان يُعبئ الزجاجات بحكايات جديدة من هناك ويعود إلى القرية يوزعها على الصغار حتى أنبت فيهم الشغف.

حكاواتي من طراز فريد ونادر، يخلط صخب المدينة بهدوء القرية ويحكي عن مصابيحها من عيون أهل قريته، لا يتحدث عن نجيب محفوظ بقدر حديثه عن أولاد حارتنا، ولا يتحدث عن لحن أم كلثوم وكلمات أغانيها بقدر ما يحكي عن وقع صوتها في قلوب عاشقيها من البسطاء.. لا يُلبس حرفه حلة ورباطة عنق ولا يٌقيده بعمامة بل يتركه حراً للمارة.. لا يسعى أن يكون جمهوره من النخبة بل يحرص أن تظل حكاياته على لسان العوام.. لذا طوع الحروف والأرقام في أقصوصات تاريخية وضع لها عنواناً يعبر عن مقصده ونهجه "ذات يوم".

لم يكتف الشحات بحفر اسمه في كشوف الذين يقفزون من أسوار الموت ليعيشوا دائماً، لكنه بحث عن دوائر الذين لا يموتون ليكون دائم الذكر، فدخل في صفحات التاريخ وأعاد صياغة سطوره.. ولأنه كما يقولون "أسطى" في المهنة لم يقف عند حد وضع حوارته ولقاءاته الصحفية في أرشيف بل أعاد إنتاجها برؤية كاتب يملك أدواته، فأخرج للنور تجربته مع عملاق الغناء الشعبي "محمد رشدي"، وعلى مهل الواثق من أن لديه شئ مختلف وحكايات أخرى.. استدعى عملاقاً آخر "عمار الشريعي".

لم يُنكر "الشحات" أنه تأخر في إصدار كتابه عن "الشريعي" لأكثر من 25 عاماً، لكن عذره أنه لم يكف عن الحديث عنه سواء على صفحته الشخصية أو في مقالاته الصحفية، ولعل رغبته في أن يأخذ كتابه سردية تاريخية، أخذ منه الكثير من الوقت ليجمع الأحداث من على أفواه وذاكرة من عايشوها، وكعادته عرج إلى أن يأخذ مدلولاً من قريته لإعجاز الله في منحه مع منعه، فتطرق إلى واحد من أبناء قريته ليسوق به نموذجاً آخر لم يُحقق حلمه برغم تشابه البدايات، ليُلقي إشارة أن "الموهبة مُهمة لكنها ليست كل الحكاية.. فهناك دائماً الظروف".

في مٌخيلتي أن تجربة عمار الشريعي بدأت من حكايته مع البحر، التي ساقها "الشحات".. هنا كان القرار الذي جعل منه "غواص في بحر النغم".. اندفع الشريعي إلى البحر لا ليُقلد أقرانه من الصغار ولكن ليٌلقي علته.. يعود كاتبنا مع عمار من البحر ويدخل معه "بيته" ويفند علاقاته مع أسرته وتأثير كل فرد فيها في تكوين شخصيته، حتى في تلحينه لقصيدة صاحبه "في الإعدادية عرفتها"، ووببراعة يجمع ما فاته من صٌحبة "عمار" من ذاكرة من عايشوه فيذكر الزمان والمكان ومن أخبره بالحكاية.

ولأن الفن "شعبي".. الفن في الشوارع والموالد وبين الناس.. كان لابد لابن العمدة أن يعيش تلك المرحلة لتنضج براجم أصابعه، ويقطف النغم من جباه أصحابه طازجاً، يتعلم السلم الموسيقي من خطوات الناس ويأخذ حروف النوتة من "الحضروات".

ينقل "الشحات" عن عمار إحساسه بفقد والده في إيجاز يترك رحابة المعنى للمٌتلقي، إذ يقول شعرت أنني فقدت العصا الذي أتكأ عليه.. وما أدراك ما العصا لكفيف يهوى الركض.

من بين سطور "الشحات" تستطيع أن تكتشف أن خلطة عمار النفسية كانت جزءاً من نجاحه، فما بين إحباط وإصرار وجد وهزل وفقدان ولقاء.. صاغت الحياة لحن الشريعي الذي لا تخطئه روح ولا أذن.

سأترككم لتأريخ "الشحات" عن "الشريعي" الذي كان وافياً ولم يترك لحظات في حياة هذا العملاق إلا ووثقها، وكم كنت أتمنى أن يقتنص الأستاذ سعيد الشحات مساحة أكثر لنفسه في هذا العمل ويفيض علينا بما عاشه من مشاعر إنسانية خلال جلساته مع "عمار" لكننا نُرجئ تلك الأمنية فلربما كان لها نصيباً حينما يشرع في كتابة السيرة الذاتية.

وأخيراً تحية ومحبة للكفيف الذي علمنا السير على طريق الأمل وقادنا إلى مكمن النور في القلوب.. إلى الأرواح التي لا تموت.. إلى المعنى والجدوى.. إلى من لحن ومن غنى ومن كتب.. من أختار أن يعيش ويبقى.