من المفترض أن يتمتع الوسط الثقافي بميزة أساسية وهي التسامح، لأنه يقوم على التعدد والتنوع والاختلاف بالأساس.
لكن للأسف الشديد، المدقق في بعض جوانب هذا الوسط يجد مظاهر من التعصب البغيض قد طالته هو الآخر، ويظهر ذلك بوضوح في استبعاد أسماء عظيمة لمفكرين كبار، سقطوا من الاحتفاء اللازم والضروري لما قدموه من جهد ودور في طريق النهضة المصرية الحديثة، التي من معوقات عدم تحققها الرئيسية هذا التعصب المقيت.
وفي هذا المضمار يمكن ذكر أربعة أسماء مهمة - على سبيل المثال فقط لا الحصر:
أولهم الكاتب الكبير سلامة موسى (1887 - 1958)، وقد نشر مؤخرًا الكاتب الأستاذ "شعبان يوسف" سلسلة مقالات ثرية عنه بعنوان "وقائع اغتيال معلن"، كشف فيها الكثير عن أسباب كراهية البعض لهذا المفكر الجليل الرائد في نشر الفكر الاشتراكي والفكر العلمي والناقد للتراث العربي القديم. وهو بالاجمال سابق عصره في الكثير من المجالات. وقد أوضح المبدع "أسامة ريان" في تعليق موجز ومحكم أن (مكمن الصراع مع سلامة سببه كتابه المبكر عن "نظرية التطور وأصل الإنسان" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1925، الأمر الذي جعل الأصوليين يتكالبون عليه بمختلف مكاناتهم وانتماءاتهم، وبلا تمعن مع كيل الاتهامات، وبدا أن الأمر هو نوع من الظهور بين من لا يتبينون).
ثانيهم الناقد الدكتور لويس عوض (1915 - 1990)، الذي اعتمد مشروعه الفكري على الدور النقدي للمثقف، ومحاربة تجميد الفكر وتقديس ماضي الثقافة العربية. ولا يمكن أن يذكر اسم لويس عوض دون أن يذكر كتابه الجدلي "مقدمة في فقه اللغة العربية" الذي استفز بعض المثقفين وجعلهم يطالبون بمصادرته لأنه في رأيهم هاجم كثيرًا من الثوابت عن أصل العرب وأصل لغتهم.
وثالث هؤلاء الناقد الدكتور غالي شكري (1935 -1998)، صاحب الدراسات النقدية العميقة والمتعددة والحاصل على الدكتوراه من السوربون برسالة "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث".
والرابع في هذه السلسلة هو المبدع الكبير الروائي والناقد والمترجم إدوارد الخراط (1926- 2015)، الذي انتقل بالإبداع الروائي إلى عوالم حداثية مبهرة تتجلى في أعمال مثل "رامة والتنين" و"يقين العطش" و"الزمن الآخر". وكان لا يرى من حقيقة إلا حقيقة الذات ويرجّح الرؤية الداخلية، وهو أول من نظّر لـ"الحساسية الجديدة". وبين تكريمات واحتفاءات وجوائز، تجد غصة في الوسط الثقافي تجاه هؤلاء، تتماس مع أصولية شعبية تعزلهم عن رواد النهضة، تتجاهلهم ولا تمنحهم المساحة الواجبة في تخليد ذكراهم وتجديد أفكارهم. وبخبث شديد يرى البعض أن هناك ثلاثة أسباب محورية وراء هذا النكران المعيب:
السبب الأول: أن هؤلاء الرواد بما قدموه من حداثة هم أغراب عن الثقافة التراثية بل هم من دعاة التغريب والتحديث. تجد أن سلامة موسى يكتب بوضوح ويطالب بتقليد الأوروبيين بشكل مباشر، وكانت المطالبة بتقليد الناجح والمتقدم سببًا لهذه الكراهية.
السبب الثاني: الشعور بأن لهم موقفًا عدائيًا من اللغة العربية، وهي "المقدسة" في حد ذاتها. التي لا يقبل البعض أن تخضع للفحص والقراءة النقدية، ويغضب -مثقفون- عندما يطالب بعضهم بالكتابة بالعامية أو أن يصف اللغة العربية بأنها ليست لغة علم.
السبب الثالث، وهو أكثر الأسباب كمونًا ويخاف كثيرون التصريح به: أن الأربعة أقباط، فتجد مثقفين أصوليين يصبون جام غضبهم عليهم باعتبارهم "فراعنة" و"صليبيون". وهي طائفية مرضية مصاب بها البعض في هذا الوسط أيضًا. وعلى الرغم من كون الرواد الأربعة من الأقباط، إلا أنك لا تستطيع أن توصفهم أبدًا بالكنسيين، فلا الكنيسة تهتم بهم ولا بتراثهم ولا تذكرهم من بين أبنائها الأبرار ولا تعني أن تشيد بأعمالهم. وهكذا، لم ينالوا عنب "اليمن" ولا "بلح" الشام، ولا نلنا نحن "حصادهم الثمين المثمر". تبقى الإشارة إلى أن هذه الآفة المدمرة في التجاهل تصيب آخرين، وليس هؤلاء الأربعة فقط. وعلى سبيل المثال أيضًا، نذكر الأدباء "يوسف جوهر - د. نبيل راغب - د. نعيم عطية - يوسف الشاروني" وآخرين.