إن كنت لا تؤمن بالحب من النظرة الأولى، فأنت لست من العاشقين، وإن كنت تسأل عن سر الحب والاشتياق والهيام، فالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يجيب لك ببساطة بأن الحب سرٌّ إلهيّ، ليس هذا فقط، ولكن يزيدك معرفة إذا تحدثت عن البعد والحنين بين العاشقين، قال لك إمام المتصوفين بأن هناك فرقا بين الشوق والاشتياق.. فالشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء.. ولا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق.
ويؤكد لك بأن مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق، ويلفت نظرك إلى أن مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟ وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن! للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة.. والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.. كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟
ويسألك هَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! بالقطع لا... هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور... والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه...
هذا هو رأى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وبالقطع أنت تعرف أن كتابه الشهير "ترجمان الأشواق" خصصه لمدح حبيبته "نظام" ابنة شيخه، وشيخ الحرم فى وقته، الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني وكتب الديوان بمكة سنة ٥٩٨ هـجرية عندما قدم إليها لأول مرة قادما من المغرب.. أحبها فوصفها بعبارات رقيقة بليغة... وأسهب فى وصفها حيث كتب عنها أنها بنت عذراء طفلة هيفاء، تُقيّد النواظر، تُسِرّ المُحاضِر، وتحيّر المَناظر، تُسمى" بالنظام"، وتُلقَّب بعين الشمس والبهاء.
وظل يشيد بها وهو المحب لها بصدق فقال عنها إنها من العالمات العابدات، السائحات، الزاهدات.. شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين.
ولاحظ هنا أنه مثله مثل كل العشاق والمحبين ذكر فى ديوانه اسم حبيبته "نظام" لأنه يحب اسمها ويحب أن يذكره فى كل وقت وحين.
ولم يكتف بذلك، ولكنه تذكر أول لقاء معها إذ يقول الشيخ الأكبر، إنه كان يطوف ذات ليلة بالبيت، فطاب به الوقت، وهزّه حال كان يعرفه من قبل، فخرج من البلاط بعيدًا عن الناس، وصار يطوف على الرمل، فتذكَّر أبياتًا من الشعر وأنشدها بهدوء بحيث لا يُسمع إلا نفسه ومن يليه لو كان هناك أحد، وهي:
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ دَرَوْ،أَيَّ قَلْبٍ مَلَكُو
وَفُؤَادِي لَوْ دَرَى،أَيَّ شِعْبٍ سَلَكُو
هَلْ تُرَاهُمْ سَلِمُو، أَمْ تُرَاهُمْ هَلَكُو
حَارَ أَرْبَابُ الْهَوَى،فِي الْهَوَى وَارْتَبَكُو
ثم يتابع فيقول: فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيَّ، بكفّ ألين من الخزّ؛ فإذا بجارية من بنات الروم، لم أرَ أحسنَ منها وجهًا، ولا أعذبَ منطقًا، ولا أرقَّ حاشيةً، ولا ألطفَ معنىً، ولا أدقَّ إشارةً، ولا أظرفَ محاورةً، قد فاقت أهل زمانها ظرفًا وأدبًا وجمالًا ومعرفةً، فطلبت منه هذه الفتاة أن يُعيد ما قاله، وكانت تعرفه ولم يكن يعرفها، فأعاد عليها البيت الأول، فاستوقفته وقالت: عجبًا منك أنت عارف زمانك تقول مثل هذا!
أليس كلُّ مملوكٍ معروفًا؟ وهل يصحُّ الـملْكُ إلا بعد المعرفة وتمنِّي الشعور يؤذن بعدمها، والطريق لسان صادق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا؟
قل يا سيدي، فماذا قلْتَ بعده؟
قلت: وفؤادي لو درى
أيَّ شِعْبٍ سلكوا
فقالت: يا سيدي، الشِّعبُ الذي بين الشغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا؟ يا سيدي، فماذا قلت بعده؟
فقلت: حار أربابُ الهوى
في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت:
يا عجبًا، كيف يبقى للمشغوف فضلة يحار بها، والهوى شأنه التعميم، يُحذّر الحواسّ ويُذهبُ العقول ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين. فأين الحيرة وما هنا باقٍ فيحار والطريق لسان صدق، والتجوز من مثلك غير لائق؟ فقلت: يابنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قرَّة العين، فقلتُ: لي....
ثم سلمت وانصرفت، ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها، فرأيت عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.. هذه الحسناء -كما قيل- تركت في قلب الشيخ الأكبر أثرًا كبيرًا غيّر حياته الروحانية، لتكون أكثر ضياءً وصفاءً وبهاءً ووعطاءً.
كثير من الكتابات المحبة للشيخ الأكبر تدافع عنه فى مواجهة الكثير من الكتابات أيضا التى تنتقده وتهاجمه.
أما ماذا كتب الروائى المبدع "محمد حسن علوان" فى روايته "موت صغير" عن حب الشيخ الأكبر وديوانه" ترجمان الأشواق" الذى أصبح حمَّال أوجُه يحتمل الشعر فيه أكثر من معنى دون إمكان تغليب معنى على آخر هذا ما سنعرفه الأسبوع القادم بإذن الله.