تذكرت لعبة الكراسي الموسيقية التي كنا نلعبها ونحن صغار، حيث يدور الأطفال حول الكراسي التي تنقص عن عددهم بواحد، وعند توقف الموسيقى يجلسون فيخرج الشخص الواقف الذي لا يجد كرسي شاغر، ثم يقل عدد الكراسي بواحد وهكذا إلى أن يتعين الفائز، وفي كل مرة تدور الدائرة تتغير الكراسي فليس شرطًا أن يجلس نفس الشخص على نفس الكرسي، وبالمثل من لعبة الأطفال إلى حركة الكبار فالكراسي أيضًا متحركة.
لنتفق أن هذا الكرسي ليس بدائم فالحياة متغيرة والمناصب متقلبة لذا فعلى الشخص الموجود داخل دائرة منصب معين أن يدرك من اليوم الأول أنه لن يجلس للأبد وسيرحل في وقت ما، وهنا عليه أن يسأل نفسه سؤالًا واحدًا، هل حينما أرحل سيفرح أم سيحزن المحيطين بي؟ هؤلاء الأشخاص الذين تعاملت معهم من قمة الهرم الإداري إلى قاعة.
تشير الظواهر أن هناك أشخاص يمسكون المنصب فيزداد حب الناس لهم، حينما يعملون وينجزون ويشجعون الابتكار ويدعمون الموظفين ويسهلون الأمور عليهم بعدالة وشفافية، وهناك أشخاص يتمنى مرؤوسيهم التعامل معهم كما تعاملوا قديمًا مع الجارية السلطانة شجرة الدر التي حكمت بالدسيسة والمؤامرات فقتلوها ضربًا بالقباقيب! فالتعقيد منهجهم، يحكمهم الهوى فيحكمون بالظلم ويفضلون ذوي الرؤوس المهتزة دائمة الحركة التي تعلن تأييد المدير في كل ما قاله، ويقاومون التغيير للأفضل ويضطهدون المبدعين والمتميزين لأنهم يمثلون تهديدًا كبيرًا عليهم، ودائرة راحتهم تتلخص في الشللية فيقربون بعض المعاقين نفسيًا لينقلوا لهم الأخبار "الكاذبة" وليكونوا تحت أمرهم وطاعتهم حتى في الباطل ولينفذوا لهم ما يريدون بشكل غير مباشر.
هناك من يجلسون على الكرسي دون رغبة في الرحيل ولكن مهما طالت جلستهم ومهما صرفوا على صمغ كراسيهم سيأتي وقت ويُنزعون منه نزعًا، وكيف لا يرتبطون هذا الارتباط بالكرسي وهو يشبع جوعهم النفسي لاحترام الآخرين لهم ويضفي عليهم قيمة ناقصة داخلهم، لنتفق أن الذي يجلس على الكرسي هو من يضيف للمنصب وليس العكس، بعض الحمقى يقاتلون للحصول على الكرسي ليستفيدوا من مميزاته ويوظفونه لجمع الأموال واستغلال الآخرين بكل أشكال الاستغلال، لذا حينما يزول ينهارون وهذا أمر طبيعي، فهم لم يكونوا يفعلون شيء في حياتهم سوى الدوران حول هذا الصنم.
الناضجون فقط هم من لا يتأثرون ولا يهتزون، حياتهم في المنصب كما هم خارج المنصب، استقرارهم النفسي وسعادتهم داخلية غير مرتبطة بمكانة معينة لأنهم يعرفون قدر أنفسهم جيدًا، فهم من يضيفون للمنصب لا العكس والمنصب يمثل لهم جزء من كل، جزء من حياتهم وليس كلها، بعكس الحمقى الذين يمثل لهم المنصب الكل في الكل.
نعم، للمنصب الإداري فوائد ولكن قد يكون لصاحبه أيضًا دور غير مرغوب فيه، والأيام دوارة بمعنى أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا وهي سنن كونية، فمن يزرع شوك بالطبع سيحصد شوك، فقط ربما يكون الفارق بين وقت الزرع والحصاد كبير ولكن الحصاد سيأتي بكل تأكيد.
بالطبع، لا يمكن أن ينجح الجالس على الكرسي بالصدفة، فلو كانت إمكانياته محدودة لن يضيف شيئًا ولكن كي ينجح عليه أولًا أن يبذل الجهد في قراءة المشهد والأشخاص، والفهم الناتج عن هذا سيساعده على اتخاذ القرارات الصحيحة واختيار مساعديه المناسبين وتطوير العاملين ودفع عجلة العمل بشكل منطقي وفق نظام واضحة واجباته ومسئولياته.
إن الترقية إلى منصب إداري بالجلوس على كرسي معين لا تضمن النجاح، فما يضمن النجاح سمات كثيرة أهمها الإنتاج والشفافية والعدالة والقدرة على قيادة الآخرين وتحفيزهم وإلهامهم لتحقيق أفضل ما لديهم، وأهم شيء تذكر أن الجميع راحلون فلم تدم يومًا لأحد، أما من نفخه غرور الكرسي سيأتي اليوم ليسقط منهارًا حينما يفرغونه من هواء المنصب!