الجمعة 15 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

"فخ الحضارة".. القصة الأكثر رعبا لثورة الذكاء الاصطناعي وأثره على اللغة والهوية

غلاف كتاب فخ الحضارة
غلاف كتاب "فخ الحضارة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بالرغم من زيادة فرص تحقيق الرفاهية للإنسان جراء المغامرات العلمية والاستكشافية، فإن خطورتها في المقابل تفوق الخيال، وتنذر بعواقب مرعبة إن لم يتدارك العرب وضعهم العلمي والفكري، بهدف اللحاق بعصر الذكاء الاصطناعي الفائق؛ هكذا يحذر كتاب "فخ الحضارة: ثورة الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على الثقافة واللغة العربية" الصادر حديثا عن سلسلة "كتاب اليوم"، للناقد الأدبي د.محمد سليم شوشة، أستاذ الأدب العربي بجامعة الفيوم.

تحاول تحذيرات كتاب "فخ الحضارة" أن تترك أثرًا في بيئة لا تشعر بالخطر وهي تعيش وسط الأمم المتقدمة التي تتصارع لامتلاك نموذجها الخاص من الذكاء الاصطناعي، الأكثر دقة وفاعلية، ومع ذلك فهي لا تستسلم للاطمئنان.
في الوقت نفسه، يواجه العرب مخاطر حقيقية تخص اللغة والهوية، تهديدات يمكنها تفكيك سرديات وتاريخ وتراث أمة معينة لصالح أمم وثقافات أخرى، وبحسب سليم شوشة فإن تعامل الذكاء الاصطناعي مع اللغة العربية، إما أنه سيحقق وعيا بها يتفوق على العرب أنفسهم، وأنه سيفسر النصوص الدينية وسيغير في القصص والسرديات والتراث، وإما أنه لن يتطور في فهمه ومعالجته العميقة للغة العربية بما يجعلها تخرج تمامًا من التكنولوجيا، ويتحول المستخدمون بشكل كامل إلى الإنجليزية أو غيرها، والسبب في هذا يعود بشكل مباشر إلى ضعف دراسات اللغة العربية.
ومن المفارقات التي يبرزها بوضوح الكتاب، أن الذكاء الاصطناعي رغم خطورته الوجودية التي يترتب عليه بقاء وزوال أمم، فإن الغالبية من العرب تنظر إليه بأهمية أقل، أو بوصفه نوعًا من التمدد التكنولوجي التقليدي، وتطور تكنولوجيا الكمبيوتر وثورة الاتصالات والانترنت، لكنه مختلف تمامًا، لدرجة أن الدول الكبرى التي تعمل فيه تصدر تحذيرات متتالية بوصفه "تحديًا عالميًا".

من المفارقات أن ينظر البعض للذكاء الاصطناعي بوصفه تطور تكنولوجي عادي

احتمالات تعامل الذكاء الاصطناعي مع اللغة العربية

يتوقع مؤلف "فخ الحضارة" أن تكون احتمالات تعامل نماذج الذكاء الاصطناعي مع اللغة العربية على احتمالين، الأول اكتمال قدرته على استيعاب اللغة بشكل طبيعي كما يتعامل مع أي لغة أخرى، لأنه مؤهل للاشتغال بشكل أساسي على كل اللغات البشرية، والثاني هو التعامل معها بنسبة فهم ضئيلة جدا، تجعله غير مجدي أو غير مفيد للمستخدم مما يضطره للابتعاد عن استخدام اللغة العربية، ويتجه لاستخدام لغة أخرى أكثر فاعلية.
ناقش المؤلف النسبة المتوقعة لفاعلية الذكاء الاصطناعي الفائق في معالجة اللغة العربية واشتغاله على نماذجها، متسائلا: هل هناك مشاكل محتملة في اشتغال هذا النظام على اللغة العربية من الأساس؟ موضحًا أن قراءة مثل هذه الأمور لم يعد من باب التكهن المستقبلي، خاصة وأن المستخدمين للأنظمة الحالية المتاحة لديهم شعور بأنها ضعيفة داخل اللغة العربية.
يعتقد مؤلف "فخ الحضارة" أننا بحاجة لتدريب وتغذية العقل الاصطناعي بالمعادلة التي تجعله يتفادى الأخطاء، مثل الأخطاء في كتابة الهمزات والحروف والتمثيل الصوتي، وينجح في فهم احتمالات المجاز والفرق بينه وبين الحقيقة.
هذه التغذية ليست سهلة، وذلك عائد إلى طريقة تعاملنا مع اللغة العربية، فنحن لم نفكر في دراسة اللغة من هذا المنطق التكنولوجي من قبل، ولم نكن نتوقع أننا سنحتاج إلى إفهام الآلة لغتنا ونظامها بشكل كامل، ومن المحتمل أننا فشلنا في تعليمها لأبنائنا أصلا. بما يعني أن التهاون في العناية باللغة في العقود الماضية تأتي نتائجه الكارثية للأجيال الحالية واللاحقة في ظل هكذا ثورة علمية.
ركز الكتاب على ضرورة فهمنا للغة على نحو فائق النصاعة، بهدف التمكن من تعليمها للآلة، لذا يتوقف فهم الذكاء الاصطناعي التوليدي للغة على فهم أصحابها لها، أي أن أصحابها تمكنوا من دراستها مع إدراك كل أنماط الاستخدام، واستخلصوها في قواعد وأنماط وقوانين منطقية أولا ورياضية ثانيا، مشددا على ضرورة بحث اللغة في ضوء الإدراكيات والمنطق والرياضيات للوصول إلى دالة منطقية رياضية تغذي الذكاء الاصطناعي، ليصبح كل حرف وكل كلمة وكل جملة وكل عنصر سياقي يمكن أن يوجه المعنى يجب أن يؤخذ في الحسبان، ويمكننا من هذا هو أهمية الذهاب إلى نظرة نحوية جديدة، ونظرة معجمية، ونظرة في بحث ودراسة تاريخ الكلمات والاشتقاق أو ما يعرف بعلم الإيتمولوجي بطريقة غير تقليدية.

الغباء العارض مع بعض اللغات ليس هو جوهر وطبيعة الذكاء الاصطناعي حين يفشل في التعامل مع لغة معينة

هلوسات العقل الاصطناعي ومحاكاة العقل البشري

شرح "فخ الحضارة" خطورة عجز الذكاء الاصطناعي الفائق عن التعامل مع اللغة العربية، وفشله في المعالجة العميقة لنماذجها، يترتب عليه شعور المستخدم بعدم كفاءة اللغة العربية، والاتجاه إلى لغات بديلة تُسعفه، وبذلك تدريجيا تخرج اللغة العربية من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كما خرجت في مرحلة سابقة من دائرة العلوم الطبيعية.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي مؤهل للتعامل مع كل لغات البشر، لكنه متوقف على قدرتنا نحن على استخلاص قوانين اللغة العربية وفق منطقه، ومنطق المرحلة من تاريخ العالم، وحالة العلوم الطبيعية فيه.
ويتشوش البعض في فهم قدرات الذكاء الاصطناعي في التعامل مع لغات البشر نتيجة ما يقدمه من هلوسات وغباء عارض في تقديم بعض المساعدات، لكنه هذا الغباء العارض مع بعض اللغات ليس هو جوهر وطبيعة الذكاء الاصطناعي حين يفشل في التعامل مع لغة معينة، وإنما هو الفشل في تدريبه على اللغة، فشل أصحاب اللغة في فهم لغتهم، وعدم معرفة الطريقة العلمية الحديثة في دراستها. 
الواقع اللغوي الخاص بالعربية، يبرر النتيجة عندما يعطينا الذكاء الاصطناعي ما يسمونه بالهلوسات حين نطلب مساعدته في موضوع معين، لكنه سيكون مبدعًا في أقصى درجات الدقة في اللغة الإنجليزية، في هذا الموضوع نفسه، فالأمر متوقف على تغذيته بالقانون أو النمط بطريقة رياضية.

تعتمد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الكبير أو الفائق على مبدأ محاكاة العقل البشري عبر نموذج عمل الشبكات العصبية في المخ، وجعل النموذج التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي الكبير يعمل وفق هذه المنظومة المشابهة لما يتم من عمليات في المخ البشري، بحسب ما يوضحه الكتاب.
يرى مؤلف "فخ الحضارة" أنه من الضرورات الملحة هو إعادة النظر في دراستنا للغة العربية، مع التركيز على أسئلة البؤرة أو النقطة التي ينطلق منها العقل في إدراكه للمعنى، مع إعادة النظر في أركان بناء المعنى وأنماط الجملة بشكل يتسم بالطابع العلمي والتجريبي، وإعطاء الأهمية لدراسات السياق بشكل عام لأنها من أهم العناصر التي تحتاج إلى تطوير وتعميق، ضاربا المثل بالطريقة التقليدية في التعليم التي تعطي الأولوية للإعراب الذي يأخذ في بعض التصورات المسيطرة الحالية مكانة كأنه مهارة قائمة بذاتها، أي غاية وليس وسيلة، فهناك مبالغة في تجريده وإطلاق العنان له بعيدا عن مسار عملية الفهم أو إدراك المعنى.

التنازل عن اللغة يعني التنازل عن حكايات وقصص وبطولات وسرديات، وتنازل عن التاريخ أيضا

التخلي عن اللغة والتخلي عن التاريخ والجغرافيا

الاستيعاب الحقيقي لهذا النوع من المخاطر لا يتمثل في إدراك ضعف أو هشاشة المحتوى العربي في نماذج الذكاء الاصطناعي، ولكن في هجر اللغة العربية والبحث عن طريقة ولغة أخرى أكثر فاعلية ودقة، لذا فهذه اللغة البديلة هي التي ستعمل على تكوين السرديات الجديدة التي يمكنها أن تهدم تاريخك، وتزور الحقائق لصالحها، وأبرز ما يمكن معرفته والخوف منه ضمن هذه المخاطر هو أن التخلي عن اللغة يساوي التخلي عن الحدود والجغرافيا.
يوضح "فخ الحضارة" أن خروج اللغة العربية من منظومة التكنولوجيا الجديدة لن يتبعه خروج العرب؛ لأن الكل منخرط في نظام عالمي متشابك، ولأن العرب سيبحثون عن لغات أخرى يعرفونها، وهكذا نصبح عرضة للتخلي عن اللغة، هذا التخلي أو نسيان اللغة يعني في بعض الأحيان التخلي عن الجغرافيا.
ويشرح المؤلف أن "التنازل عن اللغة يعني التنازل عن حكايات وقصص وبطولات وسرديات، وتنازل عن تاريخ، وهكذا يصبح مع الوقت التنازل عن اللغة تنازلا عن الجغرافيا، لأنه تنازل عن العمق التاريخي والقصص المشتركة، وحدود الجغرافيا ثابتة بالقصص والتاريخ والبطولات، وليست كما نتصور أنها محددة بالاتفاقيات الدولية والوثائق، فهذا مجرد تجلٍ أخير لما هو مسيطر من السرديات حول ما جرى حول هذه الحدود من التاريخ والحروب والبطولات والسرديات والقصص، وكلها تشكلت عبر اللغة أو حملتها نماذج من اللغة".
في ذات السياق، طرح الكتاب عدة أسئلة مهمة حول شكل علاقتنا باللغة العربية وطريقة تدريسها، منها: لماذا يمكن أن يكون العرب أكثر البشر جهلا بلغتهم؟ وما هي العوامل التلقائية وراء هذا الجهل؟ شارحا منها مثلا تقديس الماضي، وتقديس معارفنا القديمة، ولذلك فالذكاء الاصطناعي لن يفهم لغتنا لأننا نحن لم نفهمها على النحو الأمثل.
ناقش الكتاب أبرز مواضع العجز في فهمنا للغتنا، وخلافا لما قد يتم التركيز عليه مثل اتهام النحو العربي بأنه قديم، فإنه اتجه لتوضيح المزيد من الإشكالات التي تخص الاستعارات والبلاغة وإشكالات تخص المعجم والدلالة، وإشكالات السياق، والتمثيل الكتابي والصوتي، وبهذا يمكن القول إن ثورة الذكاء الاصطناعي تنبهنا إلى أننا بحاجة إلى تصورات لسانية جديدة شاملة.
كما تعرض لأحد أهم الأسئلة، مثل: ما العوامل الكامنة في طبيعة اللغة العربية يجعلها صعبة في معالجتها وفق هذه المنظومة الجديدة؟
ورغم تعقيد السيناريوهات المرتبطة بوضع اللغة العربية مع الذكاء الاصطناعي، يعتقد المؤلف أن الثورة في فهم اللغة العربية وبحثها ودراستها ستحدث بقوة الزمن وستفرض نفسها أو ستفرضها قوانين الحياة وتحت ضغوط الحاجة إلى التكنولوجيا وعجز الانسان العربي عن الانفصال عنها يضطره لأن يطور دراساته للغة العربية، وهو ما يأمله مؤلف "فخ الحضارة".  

سيصنع الذكاء الاصطناعي بتعامله مع النصوص الأدبية والجماليات زازالا معرفيا

التأثير الثقافي

"زلزالا معرفيا"، هكذا سيصنع الذكاء الاصطناعي بتعامله مع النصوص الأدبية والجماليات، وعندما يكون له طرحه الديني والتاريخي وطرحه الثقافي والفكري، وبعدما يظهر دوره ومواهبه في تفسير النصوص بكل أنواعها وخصوصا التراثية والدينية، وما يمكن أن ينتج عنه من خلخلة السرديات وتبديلها لصالح لغات وثقافات أقوى من حيث حجم البيانات وإمكانية فهمها، لذا فالمؤلف يعتقد أنه لا يبالغ عندما يقول: إن ثورته قد تكون مرآة فاضحة للحالة المعرفية والعلمية الحقيقية التي نحن عليها.

التحيز الاستقرائي

وفي هذه النقطة، حاول الكتاب أن يلقي الضوء على طريقة عمل الذكاء الاصطناعي وخاصة في الحصول على المعلومات، والتحيز هنا يعني أنه في بعض الأحيان يميل في استقراء الظاهرة واستقصاء موادها إلى بعض التحيزات الطبيعية، ربما يميل إلى الانحياز لبعض المصادر على حساب مصادر أخرى.
ويشرح الكتاب أنه لو قضية معينة لها مصادر مكونة من كتب ومقالات ومنشورات وتعليقات القراءـ فربما يميل إلى المقالات برجة أكثر من الكتب، إما بتأثير من عمليات الفهم وسهولة اللغة، أو بتأثير الكم والتكرار، وربما يتحيز إلى بعض المصادر والمواد التي فيها مشاكل أو تحمل قدرا من الأخطاء والتناقضات أو الكذب أو التزييف.
ضاربا المثل بطلب مساعدة حول طريقة علاج مرض معين، فإذا كانت المعلومات الدقيقة حول مرض معين أو ظاهرة ما مكتوبة بلغة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي فهمها بسهولة على نحو ما يفهم المرويات الشعبية الخرافية فإنه سيميل إلى استقراء واستقصاء معلوماته من المصدر الأسهل، أي أنه سيقدم لك نتائج كارثية. بما يعني أنه يميل إلى فهم اللغة العادية التي تخلو من المجازات أو الصور البلاغية والاستعارات.
وهكذا فإن الذكاء الاصطناعي سيفكر في كل ما هو متاح له من معطيات، سيفكر بالمقدمات الي نمنحها له، وهكذا يمكن أنه سيضاعف من معارف وعلوم الأمم المتقدمة بقدر ما يضاعف التخلف والضعف العلمي والمعرفي والثقافي لدى الأمم المتأخرة، وكلها أمور راجعة لدرجة كل أمة في دراسة وفهم لغتها.

الخروج من الأزمة

إلى جانب تركيز الكتاب على يمكن الانتباه إليه ويخص دراسة وتعليم اللغة العربية في ضوء الاستفادة منها في مجال الذكاء الاصطناعي، لفت أيضا إلى أن العرب أكثر الأمم احتياجا إلى عقد اجتماعي جديد، وتصور تأسيسي مختلف للتعاون والعمل المشترك، لمواجهة الاحتمالات الكبرى لخروجهم الكامل من سباق العلم وركب الحضارة الإنسانية.
ويولي الكتاب أهمية كبيرة للعلم الإنسانية، وأهمية دراسة الفلسفة بوصفها أم العلوم التي عرفتها البشرية، وإعادة تقديرها في مجتمعاتنا، ومن بعدها الاهتمام بعلوم الرياضيات وتجديد الشغف بها، فالعربي مطالب بثورة علمية معرفية يسابق فيها الزمن، ويتوقف فيها عن مشاركة العالم والحضارات الكبيرة بوصفه المستهلك والمشارك في المعارف لكنه ليس مشاركا في التفكير، لذا فهناك فارق ضخم بين من يتداول المعرفة بوصفها سلعة ومن ينتجها أو يعمل عقله بكل طاقاته في التفكير فيها وتنميتها.

فخ الحضارة، محمد سليم شوشة
فخ الحضارة، غلاف خلفي