الشائع عند كثيرين أن “الدعارة”، هي أقدم مهنة في التاريخ. ولكن اسمحوا لي أن أخالف هذا القول، محتفظًا بكل حقوق الملكية الفكرية في مجال الاكتشافات الاجتماعية، حيث أرى أن أقدم مهنة في واقعنا الحزين هي مهنة متجددة ولا تصاب بالركود أبدًا، بل مكاسبها مثل "الرز" ولا تبور مع مرور السنين والقرون، هي تجارة "الدجل والشعوذة" المرتكِنة على تاريخ ضخم من "الخرافات" المتوارثة، والتي يؤمن بها قطاع نخبوي كبير رغم شهادته وثقافته وموقعه الاجتماعي والوظيفي، يدًا بيد مع قطاع أوسع من العامة، وبين هذه الجماهير العريضة تنمو المهنة ويحقق أصحابها أرباحًا طائلة، وقد لا تصدق عينيك الجميلتين وهما تقرآن الدراسات الموثقة التي يقوم بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والتي تكشف أن المصريين ينفقون مليارات الجنيهات سنويًا على السحر والشعوذة والدجالين، وتقول تقارير محلية إن ما ينفقه المصريون على السحر وحده يراوح ما بين 10-25 مليار جنيه كل عام، كما تؤكد دراسة سابقة أن هناك أكثر من 300 ألف دجال ينشطون في أرجاء مصر.
هذا التغلغل الكبير للفكر البدائي - رغم كل أشكال الحداثة وامتلاك الموبايلات الحديثة - يكشف عن قوة وسيطرة العقل الخرافي - الموروث تاريخيًا والمكتسب اجتماعيًا - والذي تعرفه الدراسات بأنه "عقل معطوب يؤمن بالأساطير والخرافات وأعمال السحر والشعوذة بوصفها معجزات من صنع قوى خارقة ليس بإمكان الإنسان أن يراها، أو يتحكم في تصرفاتها، أو يتنبأ بما يمكن أن تفعله به وبغيره من البشر. لذلك يميل صاحب العقل الخرافي إلى الشعور بالرهبة من المجهول، والخوف من الوقوع في الخطأ، والابتعاد عن العلم، واستصغار الإنسان مهما كان لديه من علم وفطنة". من هنا يتعملق الدجالون بكافة أنواعهم ويحتلون مساحة وسلطة هائلة ويربحون أموالًا طائلة. ولعل من أكثر دعائم قوتهم أن الدين الذي من المفترض أن يحارب هذه الخرافات ويواجهها ويتصدى لها بكل قوة وحزم، مستغل هو الآخر ومسلوب من هذا العقل، بل ويمزج البعض بينه وبينها. فيستثمر مكانته النافذة ليكون أداة مربحة تمارس نفس العمل مع تغير طفيف في الشكل والمسميات. وما بين الشعوذة والمعجزة، تقوم صناعة يومية لشيوخ وأولياء وقديسين في ماكينة لا تهدأ لحظة. فتجد أضرحة ومزارات تتكلف الملايين، وحنوط وبخور وعين "عفريت" توضع فوق رفات وعظام وشعر الموتى لتمنحها روائح عطرة وتسلب "النذور" من الجيوب، رغم أن رفع القلب لله بالصلاة والدعاء لا يكلف المرء مليما واحدًا.
الخطورة إذن تشع من قوة هذا الاتحاد لفك الأعمال والحصول على البركات، والذي فطن له المصري الذكي وعبر عنه بالقول الحكيم "إحنا دفنينه سوا"، لكن بهوت العقل العلمي والنقدي يتضامن مع واقعه البائس فيصر على "تضليله". ونعود لعينيك الجميلتين التي ترى شيوخًا وأساقفة في سفر دائم للعلاج والفحوصات في أحدث وأغلى مستشفيات العالم مع أن مفاتيح المزارات الفخمة في جيوبهم المنتفخة.