الإثنين 04 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

يصدر قريبًا|«خريف نوفمبر».. مسيرة عكسية للثورة المخملية فى تشيكوسلوفاكيا السابقة

يُقدم هذا الكتاب افتراضًا واحدًا من مليون افتراض كان يُمكن أن يحدث

غلاف رواية خريف نوفمبر
غلاف رواية "خريف نوفمبر"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ماذا كان سيحدث لو لم تسر أحداث نوفمبر 1989 -أو الثورة المخملية التي أطاحت بالنظام الاستبدادي في تشيكوسلوفاكيا السابقة- على النحو الذي سارت عليه؟ لم يكن لأحد أن يعرف كيف كانت حياة الناس هناك ستتبدل. يُقدم هذا الكتاب افتراضًا واحدًا من مليون افتراض كان يُمكن أن يحدث، ومع ذلك فإن ما هو مكتوب هنا ربما قد حدث ذات مرة في مكان ما من العالم، ولا يزال يحدث باستمرار، حسب تعبير مؤلفته التشيكية ألينا مورنشتاينوفا.

من أجل هذا الافتراض، تنشر «البوابة» المُقدمة والفصل الأول لرواية «خريف نوفمبر»، الصادرة عن صفصافة للنشر، من ترجمة مصطفى جاب الله، ومراجعة الدكتور عمرو شطوري.

 

نوفمبر 1991

عزيزتي «لينيتشكا»، هل ما زلت تتذكرينني، لم نر بعضنا منذ وقت طويل! لكن لا تحزني فأنا معك بروحي باستمرار، أنا معك عندما تستيقظين، وعندما تلعبين بالخارج مع أصدقائك، معك عندما تجلسين على السجادة وتبنين منزلًا من المكعبات – من تلك المكعبات الخشبية التي تفضلينها – معكِ عندما تتناولين عشاءك من عصيدة الشوفان المرشوشة بالقرفة والسكر، عندما يضعك الجدة والجد في الفراش لتنامي. أعلم أنهما يُحبانكِ بقدر ما أُحبك. أتمنى لو أنّ لدي صورة لكِ.

من المؤكد أن شَعرك قد وصل إلى منتصف ظهرك، فهو أطول من شعري، كثيرًا ما أتذكر كيف كنتُ أمشطه لك، وأقوم بتضفيره. أود أن أكتب لكِ أكثر، وآمل أن تقرأ لكِ الجدة رسالتي. لا تقلقي فقريبًا سنكون معًا من جديد، أنا على يقين كبير من ذلك. أحبك كثيرًا.

والدتك

«ماريا» ويدعونها «مايا»

قبل نوفمبر 1989


كثيرًا ما كانت تفكر في هذه الصورة، فقد رأتها أمامها في تلك الليالي التي لا ينتابها فيها النوم، فكانت تتمرّغ على جانبيها في فِرَاشها، وتنكمش خوفًا تحت البطانية الصوفية؛ لتحاول أن تجد وضعية تخفف من آلامها، وتورم مفاصلها. ولكنها سحبت البطانية بإحكام؛ حتى لا يتسرب منها الضوء القادم من النافذة، كما غطت أذنيها أيضًا، حتى لا تسمع أنفاس زملائها في الحجرة، فعادة ما كانت تسمع صوت شخير أو تأوّه أو شهيق القلق، هنا التفت في شكل كرة في مواجهة الحائط، ومن ثم ابتلعت الخوف والقلق الذي انتابها، إلى أن هربت إلى خصوصية أفكارها.
تذكرت بوضوح الإطار المذهب لهذه الصورة، الذي استقر الغبار في تجاويفه، وشكل خطوطًا سوداء يصعب تنظيفها. وأصبح الزجاج الخارجي للصورة مُعتمًا، وفقد لمعانه بفعل الزمن، فبدا وكأن هذه الشابة الموجودة في الصورة تنظر إلى العالم من خلف نافذة ضبابية، أو من خلال سطح مائي رقراق. نظرة ثابتة تتبع من خلالها الحاضرين في كل أنحاء الغرفة، كانت نظرة ودودة، لكنها في الوقت نفسه مستسلمة ومؤلمة، كما قرأت "مايا" ما كُتب على هذه الصورة: إن وجود الطفل بين ذراعي هو أعظم شيء في الكون، فأنا أعتني به وأحافظ عليه بكل استطاعتي، لكنني أعلم أن ذلك لن يكون كافيًا؛ لأنه على الرغم من أنني سأقاتل من أجله باستمرار، فسيأتي اليوم الذي سيقف فيه على قدميه، وينطلق في طريقه. كانت هذه الفكرة في كل مرة تجعل "ماريا" تحول نظرها عن الصورة.

عُلقت هذه الصورة في غرفة النوم الباردة مباشرة فوق سرير الغرفة الكبير، في منزل الجدة المكون من طابق واحد. كانت "مايا" خلال الإجازات الصيفية تنام في هذه الغرفة على مرتبة من اللباد، وضعت على شبكة من الأسلاك المعلقة. وكان غطاؤها لحافًا محشوًّا بالريش، نعم الريش الذي تجمع في جانب واحد من اللحاف؛ ولهذا كانت "مايا" تستيقظ من شدة البرد في الليالي الباردة، حيث تجد نفسها ملتحفة فقط بكسوة خفيفة من القماش.
وقد حاولت "مايا" باستعلاء فتاة المدينة أن تقنع جدتها بمزايا البطاطين المُبطنة، والأرائك الإسفنجية، ووسائل الراحة الحديثة، التي من شأنها أن توفر لها المزيد من الراحة في أثناء إقامتها مع جدتها خلال العطلات الصيفية، ولكن ما كانت تفعله جدتها في كل مرة هو أن ترفع حاجبها مندهشة، وتبدأ في الحديث عن أن ريش الإوز هو ما يوفر قدرًا أكبر من الدفء، فضلًا عن أنها صنعت هذا اللحاف بنفسها، وحشته بأفضل أنواع القماش. وأنها على هذا السرير كانت تنام مع جدها الراحل، وكانت تقول: "إنك لا تتذكرين هذا يا "ماريا"، لكنه كان شخصًا رائعًا، كان سيحبك كثيرًا، فقد كان يُجيد التعامل مع الأطفال". ثم تابعت حديثها بتردد: "لقد أنجبت ولدين على هذا السرير، إنه جزء من حياتي، وبالطبع لا ينبغي أن نتخلص من ذكرياتنا خاصة الجميلة منها، أليس كذلك". ثم قالت: "عندما أموت افعلي بهذا الأثاث ما ترين، حطميه أو أحرقيه! ولكن صورة العذراء "مريم"، أيتها الفتاة، ستكون في يوم ما لكِ، لقد سُميتِ على اسمها، لا بد أن تُحافظي عليها! سترعاكِ، علقيها فوق سريرك، عديني بهذا! فيجب ألا ينتهي بها المطاف إلى سلة المهملات؟!". أنهت الجدة بهذه الكلمات حديثها، وهي تشير ببعض الحركات، وكأنها ترسم صليبًا على جبينها.
بدت لـ"مايا" فكرة أنها ستصبح في يوم من الأيام شخصًا بالغًا تصورًا بعيد المنال وغير واقعي بشكل لا يُصدق، والشيء الذي لا يُصدق بصورة أكبر هو أن جدتها لن تكون موجودة في يوم ما؛ لذلك فقد وعدتها بنفس مطمئنة أنها ستعتني بهذه الصورة اليتيمة، ولكن ما أدهشها كثيرًا أن الأيام التي أوصلتها إلى سن الرشد قد انقضت بسرعة كبيرة، ولم يتبق لها بعد جدتها سوى صورة "مريم" العذراء مع وليدها.
قامت مع "يوسكا" بتعليق الصورة في غرفة النوم فوق السرير، ليس لأنها وعدت جدتها بذلك، أو لأنها تعتقد أن من سُميت على اسمها ستحميها، ولكنها علقتها لأنها كانت جزءًا من ماضي "مايا"، وكما كانت تقول جدتها بأنه لا ينبغي علينا أن نتخلص من ذكرياتنا! ظلت هذه الصورة معلقة في غرفة النوم لأربع سنوات وشهرين وسبعة أيام، حتى السابع عشر من نوفمبر من عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين، عندما قررا طلاء المنزل، وسحبا الأثاث إلى منتصف الغرفة، وأزالا الصورة. 
 

غلاف الرواية


كانا "مايا" و"يوسكا" من سعداء الحظ؛ إذ تمكنا مبكرًا من الانتقال إلى شقتهم الخاصة، فعلى العكس من باقي الأزواج صغيري السن الذين يضطرون لقضاء فترة طويلة جدًّا في منازل أهلهم، ويظلون تحت رحمتهم ومضطرين لسماع آرائهم فيما يجب أن يكون عليه الزواج في سن مبكرة. كما أن هذا جنَبهما الإقامة في نُزل الشباب، حيث تجلس حارسة المبني الساخطة وراء نافذة زجاجية، وتقوم بإعطاء المستأجرين البريد الوارد، ومفاتيح الغرف فقيرة التجهيز، وتتعقب بنظارات حادة آثار أقدامهم المتسخة، وتُسجل ليس فقط الالتزام بالهدوء والنظام، ولكن أيضًا تقوم بتسجيل وصول ومغادرة السكان وزوارهم.
يتمثل حظ "مايا" و"يوسكا" في حقيقة أن الأشخاص الذين لم يعيشوا في المدينة قرروا التوسع في صناعة الزجاج. ولم يضطر البكوات الذين يقطنون العاصمة "براج" إلى أن يتنفسوا تلك الأبخرة السامة الصادرة من مصنع الكيماويات، الذي ظل لأكثر من عشرين عامًا، وعلى فترات غير منتظمة وفقًا لحالة الجو، ينفث سمومه ناحية الأحياء المنخفضة، والقُرى المجاورة. وفي بداية الثمانينيات بدأوا في إنشاء شركة لإنتاج المكونات الزجاجية، التي تدخل في صناعة الشاشات الملونة في مدينة "ميزرجيتشي". وقد تحول هذا المصنع الذي أسسه الكونت "كينسكي" في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، الذي سرعان ما قام ببيعه إلى عائلة الرايخ اليهودية، ثم قام النازيون بمصادرته، وبعدها قام الشيوعيون بتأميمه، تحول إلى صرح ضخم، ومؤسسة هامة للاقتصاد الوطني تقوم بتصدير منتجاتها إلى عدد من الدول.
كانت مصانع الزجاج -التي تنفث في الهواء من مداخنها الست سُحبًا كثيفة من الدخان- في حاجة مستمرة إلى المواد اللازمة للإنتاج والقوى العاملة، وكان يجذب الموظفين للانضمام لصفوفه عن طريق تقديم وعد لهم بالحصول على شقق في الحي السكني الذي يزداد نموًّا على أطراف المدينة. ولكن كان على المتقدمين للوظائف لكي يحصلوا على المسكن الذي يحلمون به استيفاء شروط أخرى إضافية بخلاف المؤهلات المطلوبة لشغل الوظيفة، منها: الالتزام بالعمل في الشركة لمدة عشر سنوات، الانضمام إلى جمعية الإسكان، دفع مقدمًا لحجز الشقة، فضلًا عن تقديمه لوثيقة زواجه. نعم، فالمتزوجون فقط هم من لهم حق الحصول على الشقة السكنية.

كان "يوسكا" مستوفيًا لكل الشروط باستثناء شرط واحد أنه لم يكن متزوجًا. بالطبع لم يمنعه هذا من الحصول على الوظيفة، ولكنه كان سيحصل فقط على إقامة في نُزل العاملين بالشركة. كان عمره خمسة وعشرين عامًا، وقد كان هذا -وفقًا للمعايير المتعارف عليها في ذلك الوقت- هو أفضل سن للزواج، فأغلبية أقرانه كانوا قد تزوجوا في أثناء فترة أدائهم للخدمة العسكرية، أو عقب عودتهم إلى الحياة المدنية مباشرة. فالعائلة هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة، فما الذي يُريده الشاب غير بناء الأسرة، ورعايتها، والحب المنضبط؟! ربما يُريد من وقت لآخر الذهاب لشرب البيرة مع أصدقائه في الحانة مساء؛ ليقضي هناك قليلًا من الوقت، ثم يعود بعدها إلى المنزل في حالة جيدة. لقد كانت كل المطاعم تُغلق أبوابها في التاسعة مساءً؛ حتى لا يُصاب العاملون بالتعب.
في ذلك الوقت كانا "يوسكا" و"مايا" على علاقة معًا منذ أكثر من عام؛ لذلك قررا عدم ترك هذه الفرصة تضيع، والزواج في أقرب وقت ممكن؛ إذ كان هناك تردد من جانب "مايا"، وقد كان هذا للحظات فقط. هل كان لديها خيارٌ آخر؟ لقد تخرجت في مدرسة التمريض قبل أربع سنوات، وحاولت الالتحاق بكلية الطب، ولكنها فشلت مرتين. اجتازت الامتحانات، لكن قرار عدم قبولها كان مُعللًا بأنها لم تُبدِ اهتمامًا كافيًا بالتخصص. كانت تعمل طوال هذه الفترة في مجال الرعاية الطبية، أخذت دروسًا خاصة في الفيزياء والرياضيات والكيمياء؛ لكي تتمكن من مجاراة الطلاب الذين تقدموا لدراسة الطب بعد تخرجهم في الثانوية العامة. لم تكن تعرف ماذا بوسعها أن تفعل بعد ذلك لإثبات رغبتها في الدراسة، ومن ثم توصلت إلى قناعة صائبة أن أي محاولات أخرى ستكون عديمة الجدوى. كانت ترغب في رؤية العالم، وتحسين لُغتها الألمانية، وأن تزور دول ما وراء المحيط، وأن تُسافر عبر آسيا وأمريكا. ولكنها من ناحية لا توجد طريقة للسفر إلى الخارج بطريقة شرعية، ومن ناحية أخرى لم تكن ترغب في الهجرة، فقد كانت تحب وطنها، على الرغم من صعوبة العيش فيه وافتقاده إلى الحرية التي تتمناها. 

الكاتبة التشيكية ألينا مورنشتاينوفا


مرت "مايا" بظروف غاية في السوء، والأكثر سوءًا جاء من جانب والديها، فبسبب القيود التي فرضتها الاشتراكية لم تنعم "مايا" بأية حرية. وما أثّر أكثر من المحظورات والممنوعات على سلوك "مايا"، كانت الحواجز الداخلية التي تُقيدها، والتي ارتبطت على الأرجح بطبيعة شخصيتها أكثر من تربيتها، ولهذا يمكن القول إن عواقب تلك الفترة كانت غير مناسبة. كل ما فعلته هو التردد على بعض المراقص، واحتساء كوبين أو ثلاثة من النبيذ، العودة إلى المنزل في وقت متأخر إلى من الليل. الارتباط بعلاقة عاطفية قصيرة -أو بالأحرى متعة جنسية سريعة- مع رئيس قسم الأمراض الباطنية المتزوج؛ مما أدى إلى حدوث حمل غير مرغوب به. 
كانت هذه نقطة التحول في حياة "مايا"، جعلت حياتها تنقلبُ رأسًا على عقب. في البداية لم تخبر أحدًا بحملها، لم تود أن تسمع كلام الناس بأنها دمرت حياتها بنفسها، ولا بد أن تتخلص من هذا "الحمل"؛ لأنها فجأة شعرت بأن هذا الحمل قد أعطى لحياتها معنى، حتى عندما تأكدت أنها ستربي طفلها بمفردها، اكتسب وجودها الذي فقد معناه في السنوات الأخيرة معنًى جديدًا؛ ستُصبح أمًّا، سيكون لديها من تعيش له، ومن تعيش من أجله. 
بعثَ الحمل في جسدها هرمونات السلام والرضا. وعلى الرغم من صعوبة الموقف الذي وجدت نفسها فيه فجأة، فإن السعادة كانت تشع منها، كانت هالة الراحة التي تنبعث منها هي أول ما كشفت للأم سر ابنتها، حتى قبل أن تظهر عليها أي تغيرات جسدية، علمت أن ابنتها حامل. أسرت بشكها هذا إلى زوجها، ثم بحرص سألت "مايا" عن الأمر.
لم يكن من المعتاد أو الهين في ثمانينيات القرن العشرين أن تكون هناك أمٌّ عزباء غير متزوجة، ورغم ذلك لم يتفوه والدا "مايا" ولو مرة واحدة بكلمة الإجهاض. لم يكونا من أتباع الكنيسة، ويعلنون أنهما بلا دين، ولكنهما رغم ذلك يعرفان ما هي الخطيئة، وأن أي حياة حتى لو كانت حياة طفل لم يُولد بعد هي شيء مُقدس. فوالدة "مايا" كانت تعلم من تجربتها السابقة أن الحمل بطفل ليس أمرًا مفروغًا منه كما يتخيل البعض، فقد قضت عشر سنوات طوال من الانتظار والآمال الكاذبة في انتظار حملها بطفل، حتى أنجبت "مايا". اعتبرت أن إنجابها لـ"مايا" كان معجزة، نعم معجزة لم تتكرر على الرغم من كل محاولاتها للإنجاب مرة أخرى؛ لذلك فقد نشأت "مايا" طفلة وحيدة.
اشتريا سريرًا إضافيًّا؛ لوضعه في حجرة "مايا"، كما بدأوا في البحث عن الأشياء التي سيحتاج إليها الرضيع. لم يهتما بمن هو والد الطفل، لماذا؟ ولكن تفاجأ الجميع كثيرًا، بما فيهم "مايا"، عندما جاء بنفسه قبل شهرين من الولادة، وقرع جرس بابهم!
لم تكن "مايا" ساذجة، كانت تعلم أن السيد "فاليك" رئيس القسم قد ضاجع كل ممرضة في المستشفى، كانت توافق على ذلك، وكانت زوجته على علم بالأمر، لكن "مايا" هي الوحيدة التي حملت منه. كان زواج السيد رئيس القسم المستمر لسنوات طويلة زواجًا سعيدًا بفضل التسامح اللامحدود من جانب زوجته، ولكن للأسف كان زواجًا بلا أطفال.
عندما ظهر رئيس القسم بالباب، ثم جلس في غرفة المعيشة مع والد "مايا" - الذي لم يكن يكبره بكثير - احتسى كأسًا من النبيذ المصنوع من البرقوق، لم يأتِ لكي يعرض على "مايا" الزواج، لكنه جاء لينسب الطفل إليه. فوجئت "مايا" بطلبه، فمن بداية حملها قد حزمت أمرها، وقررت أن تعتني بمولودها بنفسها، ولكن لم يكن لديها سبب أو حتى حق أن ترفض حرمان الطفل من أبيه، ولم يخطر ببالها قطّ أنها في يوم من الأيام قد تندم على ذلك.
كان السيد رئيس القسم أبًا مثاليًّا، لم يقتصر الأمر على وضع اسمه كأب للطفل في شهادة الميلاد، والإسهام بشكل منتظم في الإنفاق عليه، بل كان يزوره باستمرار، وعندما كَبُرَ الصبي كان يأخذه إلى منزله في عطلة نهاية الأسبوع مرة بعد أخرى، وظل الأمر كذلك حتى عندما أصبحت "مايا" على علاقة بـ"يوسكا"، وأصبحت أمام خيار آخر. 
كان أمامها خياران فقط: إما أن تتزوج وتُصبح سيدة نفسها في مملكتها الموعودة المكونة من ثلاث غرف، أو أن تظل مع والديها إلى الأبد. كانت حقيقة حبها لـ"يوسكا" هي ما جعلت القرار سهلًا. كانت مُعجبة به، ومنجذبة إليه برائحته عطرة التي تشبه الأيام الأولى من فصل الخريف، والتي كانت تجلب معها الراحة عقب موجات الحرارة الشديدة في فصل الصيف. ولكنها أدركت مدى صعوبة أن تعتمد على مثل هذه المعايير الموثوق بها في اتخاذ قرارات تتعلق بمستقبلها، لقد جاء مولودها نتيجة أحد هذه القرارات المحيرة، ولكن ما الشيء الذي ينبغي على الشخص أن يهتدي به، إن لم تكن مشاعره، خاصة إذا كان عمره قد تجاوز العشرين بسنوات قليلة، لكن "مايا" كانت على يقين بأن الزواج سيكون البوابة التي ستعبر منها إلى حياة سعيدة، فكلما قلت البدائل، كان الاختيار أكثر سهولة. 
حددا موعدًا لحفل الزفاف، فقد عُين "يوسكا" في وظيفة فني تشغيل في المصنع، وملأ طلب الحصول على شقة سكنية. وضعا في اعتبارهما أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت حتى يتم الانتهاء من المنزل الذي سيحصلون به على شقة كاملة التشطيب، ولكن لم يخطر ببالهما أنهما سينتظران كل هذا الوقت، وأنهما سينتقلان إلى الشقة الجديدة قبل بضعة أيام فقط من ولادة طفلهما الثاني. 
أقاما عامين في شقة في الطابق الأرضي مع عائلة "يوسكا"، محشورين في غرفة صغيرة كانت غرفته عندما كان طفلًا. كانا يشاركان والديه الحمام، والمرحاض، والمطبخ، كما وضعا معظم ملابسهما في صناديق من الكرتون بمحاذاة جدار الغرفة؛ لأنهما لم يجدا لها مكانًا آخر، كانا يأملان أن ينتقلا إلى شقتهما خلال أسابيع قليلة، كما أكدوا لهما في مكتب الشركة، وصدقا ما وعدوهما به بمنتهى السذاجة. 
لم يذهبا يوم السبت للتنزه في الغابة أو الحديقة كما اعتادا على ذلك، لكن كانا يتوجهان عبر المدينة إلى الحي السكني قيد الإنشاء، كانا يتعثران في الطريق المملوء بالحفر، ويحسبان كيف تسير أعمال البناء في الموقع؟ كانا يبتهجان عندما يجدان بعض النوافذ قد تم تركيبها، أو بعض أبواب المداخل، وينزعجان عندما يمر وقت طويل ولا يحدث شيء في موقع البناء، ويحسدون سعداء الحظ الذين اكتملت منازلهم، وتمكنوا من الانتقال إليها.
وأخيرًا وبعد طول انتظار، وفي بداية مارس من عام خمسة وثمانين انتقلا إلى مسكنهما الخاص، لقد جاءهما الملاك الطارد في الوقت المناسب، وذلك حتى لا يحل اليأس محل الحب الأبوي من طرف أبوَيْ "يوسكا"؛ لمعاناتهما من فقد خصوصيتهما، وحتى لا تُصاب "مايا" و"يوسكا" بالإحباط، وبدلًا من الامتنان لوالدي "يوسكا" على مساعدتهما لهما، سيطلبان منهما التوقف عن التدخل في حياتهما.
 

جاء أحدهم بفكرة أنه من الأفضل رصف ممرات المشاة في الأماكن التي يسير فيها الناس بالفعل، وعليه فقد تأخر إنشاؤها؛ ولذا كانت هناك فقط ممرات غير ممهدة تربط مباني الحي السكني. كانت تمر متعرجة بين العمارات الإسمنتية، متجنبة ثلاث أشجار من التنوب تم تركها في موقع البناء، الذي تقطعه معدات البناء الثقيلة ذهابًا وإيابًا، كدليل على أن المسئولين في هذا المكان يهتمون بالطبيعة.
تقع الشقة في الطابق السابع من المبنى الضخم ذي الأربعة مداخل، تضم ثلاث غرف، ومطبخًا على شكل حرف L، صُنع الجزء الرئيس منه من ألواح الفورميكا، كما كُسيت الأرضية بمشمع بني اللون، به تقشير على الأجناب، وفقاعات في المنتصف، فضلًا عن أنه كان مخدوشًا في بعض الأماكن، على الرغم من أن "يوسكا" و"مايا" كانا المالك الأول للشقة. كانت الجدران مغطاة بورق حائط أخضر اللون ذي زخارف فضية وبنية، كما تبين لهما في وقت لاحق أن العمال على ما يبدو قاموا -توفيرًا للوقت أو للخامات- بلصقه مباشرة على الجدران الخرسانية دون عازل، لكن كان المنظر جميلًا من النوافذ؛ حيث تُطل على التلال المرتفعة خلف المدينة، كما كانت الشرفة كبيرة تكفي لتعليق الغسيل، واحتساء فنجان من القهوة في بعد الظهر، وإذا لزم الأمر فإنه يُمكن إخراج المدخنين من الضيوف الذين لا يستطيعون الصمود بدون الحصول على جرعات منتظمة من النيكوتين إليها. 
دخل "يوسكا" و"مايا" بفخر من باب المبنى المفتوح وفي أيديهم المفاتيح، صعدا إلى الطابق السابع، فعلى الرغم من أن المصعد يعمل، فإنه كان مغلقًا حتى لا يقوم المستأجرون بتدميره لو أنهم استخدموه في نقل أثاث منازلهم الثقيل. فتحا باب الشقة وعبرا عتبة الباب، وعلى الرغم من أن كل شيء كان ملونًا بالأخضر أو البني، فإنهما لم يهتما بذلك. كان مدخل الشقة يتسع بالكاد لـ"مايا" وبطنها الكبيرة بسبب حملها؛ لذا وجب على "يوسكا" الانتظار حتى تتحرك زوجته إلى غرفة المعيشة، التي تُوجد بها أسلاك عارية تتدلى من السقف، وأيضًا من كل الأماكن التي كان من المفترض أن توجد بها فِيَش الكهرباء. لم تعترض "مايا" أيضًا على وحدة المطبخ المصنوعة من الصفيح، ولا حتى على حوض المطبخ المطلي بالمينا، الذي تم تركيبه بشكل سيئ، ولم تلاحظ حتى خشب الفورميكا الذي صُنع منه قلب وحدة المطبخ. جلست في الحمام على حافة حوض الاستحمام، كي تُريح ساقيها المتورمتين بعد أن صعدت إلى الطابق السابع. كانت سعيدة. 
أخذت "مايا" تفكر فيما حدث، وقد استدارت لتنام على جانبها الآخر: على أي حال كنتُ وقتها أشعر بالسعادة باستمرار. حتى في ذلك الوقت كان هناك من قرروا نيابة عني، وحددوا لي من أكون، وماذا أكون، كنتُ مقيدة بسلسلة غير مرئية، كان هناك أناس غير مرئيين أيضًا يتحكمون بها، يشدونها ويرخونها كما يحلوا لهم، ولكن رغم ذلك كان لي عالمي، كانت لي عشيرتي، كنتُ سعيدة، ولكني لم أكن أعلم ذلك. على ما يبدو أن هذه هي الحقيقة، فالإنسان يتوق إلى السعادة، وعندما ينظر فقط إلى الوراء يدرك بالفعل أنه كان سعيدًا. سحبت البطانية على رأسها ومنعت نفسها من البكاء. 

 

 

ألينا مورنشتاينوفا

كاتبة ومترجمة تشيكية، ولدث في 24 يونيو عام 1963 في فالاشسكي ميزيريتشي. التحقت بجامعة أوسترافا، حيث درست الإنجليزية والتشيكية، ومن أشهر أعمالها رواية «سنوات الصمت» التي ترجمت إلى عدة لغات.