ترتكز مجموعة «حشرات سوداء»، للكاتب علي حسن، التي تصدر قريبًا عن مؤسسة بيت الحكمة للثقافة، هي مجموعة قصصية، عن المرأة وتهتم بها وبعالمها، بكل ما تعنيه المرأة في حياتنا الإنسانية ومجتمعنا العربي، حسبما يصفها الناشر.
ويُشير الكاتب إلى أن المجموعة تتناول كل ما يصيب المرأة العربية من تهميش أحيانًا، أو انتهاك لحريتها، شخصيتها، حقوقها، واستقلالها المادي والمعنوي، كذلك تشير المجموعة وتنبه إلى أن تعليم المرأة لا يقف حائلًا أبدًا ضد التمييز أو سلب المرأة العربية عمومًا، والمصرية تحديدًا بعض حقوقها في كثير من الأحيان.
وتتكون مجموعة «حشرات سوداء» من عشرين قصة؛ أغلبها قصص نفسية، فلسفية، اجتماعية، صوفية في أحد جوانبها، تنطلق من طبيعة البيئة المصرية، وتأثيرها على الأفراد والمجتمع، كذلك على المستوى الثقافي والتعليمي.
ويُشير الكاتب إلى أن المجموعة مترامية الأطراف، متنوعة ومتباينة، تختلف باختلاف القصص؛ بمعنى أنها تشمل أنواعًا مختلفة من الأمكنة والبيئات، أحداثها تنتمي إلى أزمنة متقاربة أحيانًا، وبعيدة في أحيان كثيرة. كذلك الوسط الذي تدور الأحداث فيه، ولقد حاول المؤلف أن يجسد الأفراح والأتراح، الآلام، الانكسارات، الانتصارات، القوة الجبارة التي تملكها المرأة المصرية، ولفت الأنظار إلى رغباتها وأهدافها وتطلعاتها، كي تحقق كل أحلامها.
يقول الناشر: «في المجموعة القصصية حشرات سوداء نحن نجد الذكريات حاضرة بقوة؛ الإشارة كذلك إلى عظمة تأثيرها على الشخصية، وأن هناك مَن يعيشون في غياهب الماضي، يحيون في عالم من الذكريات، في انفصال تام وكامل عن الواقع المعاش بكل ما فيه، فيصابون بحالات انفصام مرضي!».
يضيف: «هذا التناول الجريء والصادق لم يكن الغرض منه هتك أسرار أو كشف عيوب وفضح مجتمع ننتمي إليه ونعتز به، وإنما لكي نضع أيدينا على الأدواء والأدران، نقدم الأسئلة، نطرح أفكارًا، ندعو دون مباشرة إلى العلاج والتغيير الإيجابي للمجتمع الذي نعيش فيه ونتعامل معه ونتعاون من أجل تقدمه».
ومن المجموعة القصصية «حشرات سوداء» للكاتب علي حسن، تنشر «البوابة» قصة «عابر حياة».
عابر حياة
تعثَّرتُ به اليوم، في اللحظة التي تمنيتُ فيها انصهار الطريق بين عملي كفرد أمن لإحدى شركات بئر السّلم في جاردن سيتي، وبين غرفتي على سطح بيت مهترئ في المنيرة. وقف «عادل» عند قدميَّ بسيارته الفارهة. زاملته ست عشرة سنة؛ منذ ابتدائية المنيرة حتى تخرجنا في جامعة القاهرة! عشرون عامًا مرت دون لقاء، لكنه عرفني من مشيتي المنهزمة!
فارقتني لياقة الترحيب؛ هو على مقعده الوثير داخل سيارة فارهة، ابتسامته عريضة، يحاول إيهامي أنه نال الآن ما تمناه منذ سنوات! فنسجتُ كالعنكبوت خيوطًا من ابتسامات باهتة حول شفتيَّ، طابت له!
أقف منتصبًا على الرصيف؛ مالَ بجذعه ناحيتي، كاد يلمسُ الكرسي بوجهه! مدَّ ذراعه فاتحًا الباب، بينما حاول بيده الأخرى تخفيف وطأة حزام الأمان الذي قيَّده في المقعد!
أشار بكفِّه كي أدخل مقصورته قائلًا: «هيا.. ندع السيارة تنطلق حيث تشاء، ونهيم نحن في ذكرياتنا».
ليس لديَّ ما يحول بيني وبين رغبته؛ ركبت، فوجَّه لي أمرًا جديدًا: «اربط حزام الأمان لنطير».
تولَّى زمام الحديث؛ يفصح عن أدق تفاصيل حياته بثبات وثقة! يحشو جُمَلَهُ المتطايرة بضحكات هيستيرية، وألفاظ نابية أحيانًا:
«بعد تخرجنا في كلية الحقوق، نلت درجة الدكتوراه في القانون الدولي، أصبحت أستاذًا مساعدًا، زوجتي نسمة هانم، ابنة الدكتور مختار، أستاذ القانون الدولي.. أنت تعرفه جيدًا.. صار الآن عميدًا للكلية. نسمتي الخبيرة الاقتصادية ومديرة الائتمان في بنك مصر، أنجبت لي ولدًا وبنتًا! في الصَّفين الخامس والسادس بالمدرسة البريطانية، مصروفاتهما المدرسية تجاوزت ثلاثين ألف دولار هذا العام!».
لم أنطق بكلمة؛ ليس لديَّ سوى الفشل والإخفاقات! أأخبره أنني ما زلت عاجزًا عن الالتحاق بوظيفة لائقة، أني عجوز ينتظر الموت داخل قبر على أحد الأسطح القريبة جدًا من السماء، أنَّ الزوجة ترفٌ والأبناء رفاهية؟
أتابع بقلقٍ حماقاته في القيادة؛ أختبئ وراء جدارٍ من الأسئلة، ربما إذا سمعها طردني من سيارته، لكنه في عالم آخر! ينظر إليَّ من خلال نظارته الشمسية – الأصلية - يسرد منتشيًا واقِعَه ومستقبله. الثراء والنعيم يمنحان اللِّسانَ طاقات جبَّارة، انطلاقًا فريدًا! تمامًا كسيارته التي قطعت قصر العيني متجهة نحو كوبري قصر النيل في ثوانٍ!
لم يدع أبدًا نظارته الثمينة تقف حائلًا بيني وبينه! يُصِرُّ دائمًا على تصويب نَظراتهِ القاتلة نحو عينيَّ، تارة يعلق نظارته فوق جبهته، تسقط فيُعيدَها بسبابته، تنزلق على أنف تشبه أنف الساحرة العجوز فيتركها للحظات ثم يثبتها فوق هامته! تُرى هل يعلم ما يجول بخاطري تجاهه، أم يحاول استكشاف مشاعري؟ في الحالتين لن يجدَ خيرًا أبدًا!
رنين هاتفه لا ينقطع؛ يقول مزهوًّا بينما أنظر إليهما في حنق: «الهانم؛ سأغلق الموبايل.. لا أرغب أن يُشتّتَ أحدٌ تفكيري أو يقاطعني».
لو أنَّ لي زوجة مثله، لن أصبر حتى أرجع إلى البيت؛ سأهاتفها كل ساعة، كل دقيقة! لو أني محظوظٌ مثله، ولديَّ أولاد مثله، سوف أخوض في حواري معها عن مشاغباتهم، دراستهم، مواعيد تدريب السباحة والتنس، أسألها عن وجبة الغداء، ماذا أعدَّت لنا هذا المساء؟ متى ستذهب إلى مصفِّف الشعر؟ مؤكَّد أنها فائقة الجمال، تُحسن اختيار ألوان فساتينها، رشيقة، تعشق الأحذية ذات الكعوب العالية، تجيد فنون الحب... هذا إن كنت محظوظًا مثله!
أنا أكثر منه ذكاءً ونبوغًا وحضورًا، لكن بيننا اختلافات جوهرية، أهمُّها أنَّ الحظَّ يمقتني!
سطا «عادل» على كل شيء وانتهبَه؛ كل ما كان مُقدَّرًا لي استأثر به، اغتصب دجاجتي فباضت له ذهبًا، فتح مغارتي بكلماتها السحرية، وحظِّه الذي يطاوعه، فنال كل شيء!
أُتابعه من خلال نظارتي الطِّبية العرجاء؛ ربما استشعرَ النيران المستعرة داخل صدري، أو سمعَ فحيح قولون أوشك على الانفجار غيظًا وكمدًا، لماذا ينتصر هؤلاء دائمًا؟ سؤال سرمدي بحجم ثرواتهم!
صاروخ ينفلت من المجرة راصدًا الهدف! عبرَ «عادل» كوبري قصر النيل لا ينظر أمامه، غير عابئ بالزحام، كأنه ملك الموت! ربَّاه.. كيف علِمَ هذا المعتوه أني أتوق إلى خلاصٍ؟
انتبه «عادل» إلى سيارة في الطريق المقابل تتجه صوبنا! حاولَ تفاديها، انحرفَ بسرعة ناحية اليمين، اصطدم بسور الجسر!
ترتفع مؤخرة السيارة فتهوى إلى النيل في دوائر متتابعة!
أحاول أن أستوعِب، أُراقِب دون فزعٍ؛ يقبضُ «عادل» بكِلتا يديه على مقود السيارة، تسقط نظارته، اكتَشَفَ حينئذ العالم من خلال الزجاج!
ليس عند الشاطئ غير شاب، رفع صنَّارته الخاوية، وبدأ يوثق المأساة بكاميرا هاتفه، أرسلتُ إليه عبر زجاج السيارة وعدسة محموله آهَةً حارَّة: «أرحلُ مع رجل لم أتوقَّع صُحبته!».
لحظة السقوط لم يُعِرْني «عادل» انتباهًا! رأيته آمنًا مطمئنًا! خبيرٌ تمرس على هذا الموقف مرات، قبل الارتطام بسطح الماء، فكَّ حزام الأمان، حرَّر صدره وخِصره، فتح الباب، قفز إلى الماء، كذئبٍ فرَّ من الضباع تاركًا فريسته، أُعَبئْ رئتَيَّ بهواء يكفي لثوانٍ في قاع النيل.
===