عن المؤرخ الفرنسي "ديدييه مونسيو"، أكتب هذه الكلمات، حيث لم تستفد من مواقفه وأبحاثه مصر وبلدان الشرق رغم الكثير من الإنتاج عنها والعشق الجارف لها.
توفي ديدييه مونسيو ( Didier Monciaud )، عاشق مصر يوم الجمعة الماضي في القاهرة وكان القدر له حكمة، فكأنه جاء من باريس ليودع حبيبته مصر ويموت في أحضانها وهو الذي تخصص في العديد من جوانب تاريخها.
تعرفت عليه في بداية الألفية الثانية عندما جاء أستاذا زائرا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقد تعرفت عليه أكثر قبل ذلك، من خلال مؤلفه المهم الذي يؤرخ لمهنتي، وهي الصحافة، وبشكل بديع غطى قرنا من الزمان، وعنوان كتابه: “الصحافة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (1850/1950)- السياسة والتاريخ الاجتماعي والثقافة”، وهناك نسخة مترجمة إلى اللغة العربية بقلم المترجم الموهوب ربيع وهبة، صادرة عن المركز القومي للترجمة؛ والصحفيون الذين لم يطلعوا عليها حتى الآن فاتهم الكثير!
تابعت بعد ذلك مقالاته في صحف ومواقع فرنسية عن مقاومة التطرف والعنصرية خاصة ضد العرب والمسلمين، في ضوء التوظيف السياسي للمسيرات التي شغلت الإعلام وخطفت الأضواء بعد العملية الإرهابية في فرنسا (شارلي ايبدو) عام 2015، وكانت المسيرات قد استخدمت شعار "فرنسا عاصمة العالم ضد الإرهاب"، لكن الحشود لم تحرك ساكنًا قبل ذلك عند الهجوم الإسرائيلي على غزة في 2014. وينتقد ديدييه قضية المعايير المزدوجة التي تعمّق الخلاف بين الغرب وبين العرب والمسلمين.
كان صديقا للعرب وثقافتهم وحاول بشكل أكاديمي فهم الحضارة العربية والإسلامية؛ لم يكن عاشقًا متملقًا أو يهوى الجلوس على موائد الحكام، بل اختار كرسي الباحث باعتبار أن ذلك ما يبقى بعد انقضاء الحياة. وقد لا يرتاح البعض لمقعد الباحث الذي ينقب عن التاريخ من أجل الإنصاف خاصة إذا كانت نسخة التاريخ المنتشرة يكتبها من لهم مصالح مسيطرة. لذلك، كان أعداء ديدييه كثيرين، من الشرق قبل الغرب، وفجروا معارك ضده كلما اقتنصوا الفرصة لذلك، والتهمة جاهزة " مستشرق"، فقلصوا بالتأكيد فرص إشعاعه أو حتى الاستفادة من أبحاثه.
ولا يمكن الحديث عن ديدييه دون ذكر انحيازه للقضية الفلسطينية ودفاعه عنها؛ كتب عنها وسار في مسيرات شعبية للتنديد بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي المحتلة. وقد كتب قبل ذلك عن مأساة اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لبنان، في صيف 1982، وكيف حوصرت بيروت وقُصفت وفُرض على منظمة التحرير الفلسطينية وقادتها الخروج من العاصمة اللبنانية. كما كتب كذلك عن مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في 16 سبتمبر 1982. وآخر ما قرأت له في موقع كراسات التاريخ ( Cahiers d’Histoire ) مقالا عن تعرض كتاب إيلان بابي المؤرخ اليهودي للرقابة على النشر في فرنسا عام 2023 في سياق الحرب على غزة! الكتاب عنوانه: "التطهير العرقي لفلسطين" الصادر في 2008 وتمت ترجمته عن الإنجليزية للفرنسية من طرف بول شملة، حيث تم سحبه من مبيعات دار نشر فايار. كشف بابي حيثيات تأسيس الدولة العبرية عام 1948 والكارثة التي جلبتها للشعب الفلسطيني. وعوقب بأن أنهت دار النشر فايار عقده.
ويلفت ديدييه إلى التهديدات الخطيرة التي تلقي بظلالها على حرية التعبير، وتتجاوز الرقابة على الكتب إلى التشدد المناهض للديمقراطية والحريات. وهو تشدد يذهب إلى ما هو أبعد من القضية الفلسطينية كما يقول ديدييه. ويوضح أن البيئة "اللاليبرالية" في العمل مثيرة للقلق.
أما عن كتابات ديدييه عن مصر فهي كثيرة وأكثر من أي بلد آخر، من بينها دراسة عن الأرشيف والتاريخ الشفهي للأعمال التجارية في مصر، وهو مشروع نفذه مركز التاريخ الاقتصادي وأبحاث الأعمال عام 2005 التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة. كان الهدف الأولي من هذا المشروع هو اقتراح نهج مختلف عن نهج التاريخ العالمي في مجال الأعمال أو "البزنس" واعتمد على الأعمال العائلية أيضًا كموضوع لاكتشاف التاريخ الاجتماعي لمصر.
كما كتب ديدييه العديد من الدراسات حول تاريخ اليسار المصري وكذلك الحركة النسائية ونضالاتها. وقرأت له دراسة مهمة عن ثريا أدهم (1929-2008) والقضايا التي دافعت عنها. لم أكن قد سمعت عن ثريا أدهم إلا بعد هذه الدراسة، وفتشتُ عن المزيد عن هذه الشخصية فوجدت كتابًا للدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق يتحدث عن مشاركتها في الحركة الطلابية ونضالات الحركة الوطنية في أربعينيات القرن الماضي. وذكر أنها كانت دائمًا مصدر قوة وعطاء لكل من حولها ولعبت دورًا في الحركة العمالية وفي الدفاع عن حقوق النساء أيضًا كالمطالبة بالتعليم للمرأة وحقها في العمل وعدم التمييز ضدها في القوانين.
لم يقتصر اهتمام المؤرخ ديدييه بمصر وفلسطين بل كتب عن التاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر لمدة 130 عامًا والتاريخ الاستعماري لهولندا في إندونيسيا لنحو 350 عامًا، والمجازر التي ارتكبتها قوات الجيش هنا وهناك ولم ينل الشعبان بعد عقود من طرد المستعمرين إلا اعتذارات دون تعويضات لأسر الضحايا. وها أن ديدييه قد رحل لكن يحدوني الأمل أن يأتي من يعيد اكتشاف إنتاجه يوما ما ويجمع كل ما كتبه عن مصر ويحظى بالتكريم الذي يستحقه في مصر التي عشقها وأخلص لها ومات على أرضها!