منذ أيام قليلة مضت خلال شهر يوليو 2024، ربما عاش المنتمون أو المنتسبون لقسم علم النفس كلية الآداب جامعة القاهرة، كل على حسب اهتمامه ووعيه التاريخي، صدفة تاريخية محملة بالكثير من الدلالات الإنسانية والأكاديمية والثقافية والاجتماعية والوطنية. فقد شهد يوم الأربعاء الموافق 17 يوليو 2024 المئوية الميلادية للراحل العظيم الأستاذ الدكتور/ مصطفى سويف المولود في 17 يوليو سنة 1924. وشهد يوم الخميس الموافق 25 يوليو 2024 مرور خمسين سنة (اليوبيل الذهبي) على انشاء قسم علم النفس كلية الآداب جامعة القاهرة، إذ صدر قرار مجلس جامعة القاهرة بإنشاء قسم علم النفس منفصلا عن الفلسفة يوم الموافق 25 / 7/ 1974، وبدأت الدراسة في قسم مستقل لعلم النفس في العام الجامعي 1974/1975، ليتحقق للأستاذ الدكتور مصطفى سويف ما سعى إليه جاهدا بصبر ودأب ومثابرة ومواصلة اتجاه تنطق بها جميعا قصة إنشاء المؤسسة، ليكون العالم الباحث المؤسس لاستقلال علم النفس في جامعة القاهرة عن الفلسفة، ويكون أول رئيس لقسم علم النفس، وامتدت رئاسته حتى سنة 1986.
ولو أننا نمثل مجتمعا أكاديميا حيويا لديه الوعي الكاف بهويته وتاريخه ويؤمن بتمايزه، فينبغي أن لا ندع هذه المصادفة التاريخية (المئوية الميلادية للراحل العظيم أ.د. مصطفى سويف، واليوبيل الذهبي لتأسيسه قسم علم النفس كلية الآداب جامعة القاهرة) دون أن نحتفي بها الاحتفاء اللائق محليا وإقليميا وربما عالميا. وأمام احتمالات أن تمتد هذه الاحتفالية لعام قادم من اللحظة الراهنة، يوليو 2024، وحتى يوليو 2025، نكون بحاجة لتضافر جهود وتفاعل عقول وأفكار أجيال علماء النفس، وشباب الباحثين والدارسين، للإعداد لبرنامج متعدد الفعاليات والنشاطات للاحتفال بهذه المصادفة التاريخية وما تحمله من دلالات، والإعلان عن هذا البرنامج في أقرب وقت.
ولعل في مرور مائة عام (قرن من الزمان) على ميلاد شخصية لها وزنها الثقافي والأكاديمي في المجتمع والعالم، قيمة خاصة، فضلا عن السحر والقيمة في مواكبة هذه المئوية لليوبيل الذهبي لمؤسسة أكاديمية مرموقة أنشأها وأرسى لها تقاليدها وقيمها وغاياتها. وقد احتفت جمعية علم النفس الأمريكية بوقع قيمة وسحر مرور مائة عام على إنجازات تاريخية ثلاث مرات في القرن العشرين: الأولى، سنة 1960، للاحتفال بمرور 100 عام على إصدار جوستاف فخنر كتاب أسس السيكوفيزيقا سنة 1860، بوصفه يمثل تاريخ ميلاد علم النفس التجريبي؛ والثانية، سنة 1979 للاحتفال بمرور 100 عام على إنشاء معمل فونت سنة 1879، والبداية الرسمية لوجود علم النفس كنظام معرفي تجريبي جديد له موضوعاته وعلماؤه ومناهجه؛ والثالثة والأخيرة، سنة 1992 للاحتفال بمرور 100 عام على إنشاء جمعية علم النفس الأمريكية سنة 1892. وقد شهدت هذه الاحتفالات مظاهر علمية رفيعة أفضت إلى عرض وتقديم إنتاج فكري يتضمن مكتسبات وإنجازات وتغيرات عميقة في الفكر النفسي لعدد من أفرع علم النفس.
وما يدفع إلى الكتابة بشغف ومشاركتكم هذا الشغف ليس مجرد الوقع السحري لمرور مائة عام أو قرن من الزمان، وليس مجرد سحر اليوبيل الذهبي، ولكنه الثقل التاريخي والأكاديمي والثقافي لشخصية المائة عام، والثقل الأكاديمي والتعليمي لمؤسسة النصف قرن أو اليوبيل الذهبي: الراحل أ.د. مصطفى سويف، وقسم علم النفس.
فكلما تقدم بنا العمر، واتسعت نسبيا خبراتنا الاختصاصية في مجالات علم النفس، تتسع دهشتنا بأثر رجعي عند التحاقنا بالدراسة أوائل الثمانينيات، وتدرجنا في الدراسة، إذ ندرك في هذه الدهشة أننا دخلنا من بوابة القسم العلمي إلى جوهر وعمق روح العصر الحديث ولغته وثقافته، عصر العلم والتفكير العلمي والمنهج العلمي والعقلانية، واحترام العقل والزمن، والرؤية الميكانيكية للعالم (الميكانيزم) والعقل، إذ لكل حدث طبيعي آليات عِلِّية مادية حسية ملموسة، قد أحدثته، قابلة للملاحظة المباشرة أو غير المباشرة، وقابلة للضبط والتحكم والقياس والتنبؤ. وندرك وسط هذه الدهشة كيف تدرجنا في استيعاب روح العصر الحديث بنعومة ودون ضجيج أو الحاح لممارسة لغة العصر وثقافته وروحه.
وحتى لا تستغرقنا كثافة المعاني في المصادفة التاريخية، نجيب عن سؤال بسيط، لماذا التوقف الآن بالرصد عند كثافة دلالات هذه المصادفة؟ والإجابة هنا ذات شقين:
الأول، أشرنا إليه، وهو أننا بحاجة إلى تنظيم برنامج لاحتفالية متعددة الفعاليات تمتد من الآن وحتى يوليو 2025، تتفاعل فيها عقول وأفكار شيوخ العلم في أقسام علم النفس والشباب والدارسين والطلاب، بما يعمق الهوية الأكاديمية والمهنية بوصفها تمثلان جانبا من جوانب الهوية الذاتية، ومما يجعلنا نستحق مصادفة هذه الصدفة التاريخية المثقلة بالدلالات الأكاديمية والاجتماعية والإنسانية والوطنية.
والثاني، الحاجة الملحة لتجديد الفكر النفسي metatheory في السياق الحضاري والثقافي المصري. فالراحل العظيم مصطفى سويف مثله مثل كل العلماء المؤسسين التاريخيين، صاغ الإطار الفكري والمنهجي لعلم النفس في مصر منذ أكثر من نصف قرن، وجاءت هذه الصياغة نقلا عن التيار العلمي التقليدي السائد في علم النفس المحمل بلغة العصر الحديث وروحه وثقافته وقيمه كما تعكسها الفلسفة الوضعية المنطقية، والوضعية المنطقية المتعالية؛ فألف الكتب المرجعية الشارحة لهذا الإطار (على سبيل المثال: علم النفس الحديث)، وعمل على استقلال النظام المعرفي لعلم النفس داخل الجامعة، وأسس قسما لعلم النفس وفي القلب منه تأسيس مختبر أو معمل علم النفس على غرار معمل فونت، وامتد بالعلم إلى خدمة المجتمع، فامتد به إلى مجال الفنون والآداب (تأسيس أكاديمية الفنون)، ورصد الوبائيات الاجتماعية (البرنامج الدائم لتعاطي المخدرات، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية)، والصحة النفسية (العمل على إيجاد درجات مهنية للاختصاصي النفسي في وزارة الصحة)، ونشر البحوث الإمبريقية الرصينة التي تقدم نموذجا عمليا لهذا الإطار الفكري والمنهجي؛ ومن هنا وُضعت المؤسسة على طريق التيار التقليدي السائد في علم النفس؛ ومنذ ذاك التاريخ لم يتم الاقتراب من هذا الإطار الفكري والمنهجي، أو محاولة تناوله تناولا نقديا جادا، أو حتى محاولة الالتفات إلى التغيرات والتحولات في الفكر النظري لعلم النفس مع انتقالنا إلى القرن الحادي والعشرين.
وتتابعت في سياق هذا الإطار الفكري الحداثي أجيال الباحثين والعلماء متمثلة خطوات البحث كما تتم في العلوم الطبيعية، والرؤية الميكانيكية النيوتينية (نسبة إلى نيوتن) للعالم، وطبيعة السلوك الإنساني، أو طبيعة الطبيعة البشرية والعقل. وتتلخص أسس البحث في: 1) الاختزال إلى الأساس الذري المادي الملاحظ موضوعيا، وفقا لرؤية توماس هوبس Tomas Hobbs، إذ كانت الذرات في علم النفس هي المنبهات والاستجابات، وفي أيامنا هذه الذرات النفسية عبارة عن عناصر السياق الايكولوجي والسلوك الإنساني أو التنبيهات والمراكز والألياف العصبية أو الخلايا العصبية؛ ب) الكشف عن الأسباب الاحتمالية بنسبة تقترب من المعرفة اليقينية المطلقة (احتمال لا يقل عن 95%، أو يقترب من 100%)؛ ج) استنباط القوانين العلمية الثابتة.
ومع استمرار التمسك بأن يكون علم النفس أقرب إلى العلوم الطبيعية بما يتناقض مع الطابع الإنساني والاجتماعي والثقافي لظواهره، ظهر ما يمكن أن نسميه ديماجوجية المنهج، والبحوث المتمركزة حول المتغير أو المتغيرات أكثر منها متمركزة حول الشخص. وظهر ما يمكن أن نسميه بهندسة البحوث، حيث تقسيم الحياة النفسية وظيفيا إلى متغيرات (ذرات) مستقلة وأخرى تابعة، أو متغيرات (ذرات) منبئة وأخرى متنبأ بها، وثالثة وسيطة أو معدلة، ورابعة عاملة؛ إذ في إطار التنشئة الأكاديمية يُدفع الباحثون دفعا إلى العمل البحثي والاستكشاف، دون تفكير وتدبر: هل يعكس ما ينتهي إليه البحث واقعا نفسيا حقيقيا في حياة الناس، أم أنه واقع نفسي مصطنع موجود بين صفحات البحوث المنشورة فقط، وفي تصورات الباحثين فحسب وأدوات القياس الاختزالية، وإجراءات التجريب المصطنعة والبعيدة عن الواقع؟ وأكثر ما يمكن أن تقدمه البحوث المتمركزة حول المتغيرات التحقق من فاعلية بعض التقنيات الإحصائية والمعادلات في استكشاف صور التباين المشترك بين عدد من المتغيرات؛ ومن ثم تصبح البحوث النفسية كافة بحوثا سيكومترية إحصائية تفقد التكوينات النفسية معناها وعمقها الثقافي والاجتماعي في إطارها، وتختفي الحدود الفاصلة بين التخصصات النوعية في علم النفس إذ تتشابه البحوث في لغتها حد التطابق على ما بينها من اختلافات في التخصص. فلا نكاد نجد لغة علمية خاصة تصاغ بها مشكلات علم النفس الارتقائي على سبيل المثال وفروضه ونتائجه تميزه عن لغة علم النفس الاجتماعي أو المعرفي أو الإكلينيكي، والعكس بالعكس.
وبنفس الطريقة، اتجهت الممارسات التطبيقية والعملية نحو ما يمكن أن يكون ديماجوجية التدخلات العلاجية القائمة على ذات الرؤية الاختزالية الذرية المادية للاضطرابات النفسية، إذ يختزل الاضطراب إلى ذرات الأفكار الآلية، أو التشوهات المعرفية، ليتحول المريض والمعالج بخصالهما الإنسانية الأساسية الإيجابية والفعالة إلى كائنات سلبية لا حول لها ولا رؤية أو وعي إزاء مجموعة من الفنيات والخطوات التي يتم تطبيقها بقطع النظر عن مستوى وعي المعالج وخبرته الذاتية المستقلة، وبقطع النظر عن الخلفية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية وخلفية الاهتمامات الشخصية للعميل الذي أتى طلبا للمساعدة. وإضفاء الطابع الطبي على الممارسة التطبيقية النفسية لاكتساب السلطة والمهابة والعائد الاقتصادي، مما يجعل هذه الخدمة التطبيقية قاصرة على الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة القادرة على التكلفة العلاجية فيما يسمونه عيادات المعالجين النفسيين؛ وفي المقابل لم يتم إجراء أية مناقشة لمدى ملاءمة هذه النظريات العلاجية والتقنيات لواقعنا الاجتماعي والثقافي، أو طرح أسئلة من قبيل هل العميل بحاجة إلى تغيير أفكاره أم إلى تغيير واقعه، وهل العميل بحاجة إلى تغيير أفكاره أم هو بحاجة إلى قدر من المساواة والعدالة الاجتماعية، إذ أن طرح مثل هذه القضايا يعد نوعا من التلكؤ وتضييع الوقت فيما لا يجدي، فما دام بوسعنا تغيير أفكار العميل فلماذا نشغل أنفسنا بما ليس في وسعنا: تغيير واقع العميل، أو تدريب العميل على تغيير واقعه؛ وبالتالي التحرك في إطار ما هو كائن وممكن، وتجاهل ما ينبغي أن يكون.
وأود هنا تأكيد أن الانتماء للمدرسة العلمية لمصطفى سويف، والوفاء لها، والاحتفاء بمئويته الميلادية، واليوبيل الذهبي لتأسيس قسم علم النفس لا يتناقض مع محاولة التوقف بالتأمل والنقد وإعادة النظر والإشارة ولو من بعيد إلى أهمية تجديد الفكر النفسي في السياق الثقافي المصري، بما يتواءم مع مستجدات عالمية فعلية آخذة في النمو والتطور منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى الآن، لتصبح جزءا من التيار العلمي السائد غير التقليدي في إطار روح جديدة لعصر جديد يتجاوز الحداثة وما بعد الحداثة إلى عصر اللاحداثة ِAmodernism؛ وأكثر من هذا فإن الوفاء للمدرسة يقتضي مقاومة الكسل المعرفي والبعد عن الاتباع التلقائي الآلي على طريقة هذا ما وجدنا عليه آباءنا؛ والوعي بحالة الامتلاء السلبي بالأطر الفكرية التقليدية، والوعي بالتحولات الجذرية في الفكر النفسي على المستويين النظري والمنهجي.
والمهم هنا أن نكون على دراية بأن بؤرة اهتمام بحوثنا ليست الشخص ولكن المتغيرات الفردية والثقافية والاجتماعية والبيولوجية والعلاقات بينها عبر الأفراد أو الأشخاص، بوصفها قوى تأثير خارجية تعمل كمنبئات بالسلوك أو مصاحبات أو منذرات أو مقدمات سببية له؛ ويقوم التفسير على أساس أن هذه المتغيرات الفردية والسياقية هي العوامل الفاعلة المفسرة للعمليات النفسية المستهدفة بالبحث؛ ويعتمد المنهج على التحليل الاختزالي القائم على الاستبعاد وإهمال التكامل؛ والهدف من البحث دائما التنبؤ بالأحداث والحالات والتباين؛ وينصب جل الاهتمام دائما على المنهج ومدى دقة وسائل البحث.
إلا أن ثمة بحوثا كلاسيكية أجراها عالمنا الجليل الراحل نرى فيها التعامل مع الظاهرة النفسية بوصفها ظاهرة إنسانية تختلف عن الظواهر الطبيعية الأخرى أو الفيزيقية، وأكثر ما يلفت النظر دراسة العملية النفسية بوصفها كل متكامل، وقد أدرك من خلال المنهج التحليلي أن المبالغة في اختزال الظاهرة النفسية إلى عناصر وتفكيك الروابط بين هذه العناصر يجعلنا إزاء ظاهرة نفسية مفتقدة للحياة (ظاهرة ميتة). ففي الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة انصبت الدراسة على عملية الإبداع بما هي فعل له فعالياته وآلياته الداخلية الخاصة ولا يصدر بفعل متغيرات أو قوى خارجية، إذ تتخذ هذه العملية عدة تحولات من خلال مفهوم الوثبات، والوصف الدقيق لمفهوم الوثبة من خلال تحليل مسودات قصائد مجموعة الشعراء المشاركين في الدراسة؛ وتتطور عملية الإبداع متجهة نحو تحقيق غاية إبداعية نهائية هي التحول من الأنا إلى النحن، أو تحقيق النحن. واستخدم سويف هنا نوعين من العلل الأرسطية التي هجرتها الوضعية المنطقية: العلة الشكلية Formal cause، كما تظهر في مفهوم الوثبات الذي يفسر صيرورة عملية الإبداع الشعري وبناء القصيدة من داخلها، والعلة الغائية Final cause إذ تتحرك عملية الإبداع من وثبة لأخرى متجهة نحو الوصول بالعمل إلى نهايته لتتحقق غاية الانتقال من الأنا إلى النحن، ومن ثم تفسر الغائية الإبداعية صيرورة العملية الإبداعية بمراحلها الشكلية. وهكذا كان سويف لديه ما يستطيع به التمرد على الوضعية المنطقية.
وفي دراسته اللافتة الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي، انصب تركيزه على دراسة ارتقاء النضج الاجتماعي في السنتين الأوليتين من العمر، ومعروف أنها نموذج لمنهج دراسة الحالة. وتعكس ما يُفيد أن النضج الاجتماعي منظومة إيجابية فعالة، من عمليات نفسية اجتماعية، فيما بينها اعتماد متبادل، تنتظم الفعل الاجتماعي، وترتقي هذه العمليات عبر الزمن بفعل آلياتها الداخلية، مستعينة بالموارد المادية والاجتماعية الخارجية عند الحاجة إليها. ومرة أخرى، كان سويف في هذا البحث متمردا على الوضعية المنطقية.
وأكثر ما يستوقفنا في دراسة التطرف كأسلوب للاستجابة بناء الاختبار الموضوعي للصداقة، إذ تبدأ عملية البناء بتحليل نظري بديع لمفهوم التصلب بمختلف مكوناته وأبعاده ومن ثم التطرف، وبناء اختبار موضوعي يقيس سلوك الفرد لنستنتج شيئا عن شخصيته دون أن ينتبه إلى الكيفية التي يشكل بها سلوكه تأويلنا، إذ الاختبارات الموضوعية تتناول سلوك الشخص وليس ما يقوله هو عن سلوكه. ويقيس الاختبار مفهوم التطرف كسمة في الشخصية تتألف من مكونات متكاملة غير قابلة للانفصال إلى مكونات أو عناصر فرعية: مكون التدرج في مقابل الكل أو لا شيء، والسلوك المتقطع في مقابل المتصل (إما... أو)، وتأجيل بعض الاستجابات في مقابل الاندفاع شبه الآلي.
ومن هنا فإن بؤرة اهتمام عالمنا الجليل الراحل في بحوثه هي الشخص Person، أو العمليات النفسية وأنماطها، كما تتكشف في منظومات الفعل المنتظمة ذاتيا؛ ويعتمد التفسير على أنساق الفعل الدينامية المنتظمة ذاتيا، إذ هي المحركات الرئيسية للسلوك التي يتم الاعتماد عليها في التفسير، أي القوى الداخلية، وليست الخارجية. ويستند المنهج إلى التحليل مع الحفاظ على تكامل الشخصي والاجتماعي والثقافي والبيولوجي دون تنافس أو استبعاد، وينصب الهدف من البحث على فهم العمليات النفسية وتحولاتها، وليس التنبؤ بها، وترجمة النظرية بحيث تصبح قابلة للتقييم الامبريقي، وترجمة كل ما هو إمبريقي إلى نظرية.
ولعل من المناسب هنا، طرح إطار عام لمقترحات التغيير في الإطار الفكري والمنهجي لعلم النفس، ونوجز عناصر هذا الإطار في الآتي:
1) لم يعد من المفيد مجرد الحرص على التوسع في طرح تخصصات جديدة أو موضوعات حديثة، أو تفضيل منحى نظري واستبعاد مناح أخرى، تحت مظلة ذات الإطار الفكري. فالاتجاه نحو تبني علم النفس الإيجابي، على سبيل المثال، ودراسة الفضائل البشرية، لن يختلف عند تفسير كيف تنشأ وتتكون الفضائل البشرية عن تفسير كيف تنشأ الاتجاهات والقيم والعادات الاجتماعية والثقافية، إذ ستتم استعادة الفكر الترابطي الميكانيكي الاختزالي لديفيد هيوم وديفيد هارتلي في القرن الثامن عشر؛ حيث يُعزى تكونها إلى قوانين التزامن والتجاور (الاقتران) والتكرار. وكذلك لن تفيدنا دراسة تطبيقات الذكاء الاصطناعي لنظريات وقوانين ومفاهيم علم النفس لو أنها مستمدة من بحوث متمركزة حول المتغيرات ومشبعة بالروح الميكانيكية النيوتينية للعصر الحديث التي تم تجاوزها.
2) ضرورة الوعي والدراية بأن الغاية الأساسية من بحوث ودراسات علم النفس هو تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والتحرر من الأمر الواقع غير المرغوب بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفه وفئاته وطبقاته، عن طريق تنمية إمكانات وقدرات الأفراد إلى حدها الأمثل، وتعظيم التباين داخل الأفراد والتنوع بين الأفراد إلى حدوده القصوى. وليس في هذه العبارة أي نوع من الخطابة أو المزايدة الاجتماعية أو أن تكون ذات بطانة سياسية أو أيدولوجية؛ إذ نجد هذه الدعوة لما ينبغي أن يكون موجودة في كثير من مقدمات مؤلفات الكتب المهمة في اختصاصات عديدة.
3) ضرورة التوافق على نموذج نظري استرشادي Paradigm يوجه بحوثنا ودراساتنا التالية، والنموذج الاسترشادي السائد مؤخرا هو النموذج العلاقي Relational model، أو نموذج الأنساق العلاقية relational system model، ويؤلف هذا النموذج بين نموذجين سابقين عليه هما: النموذج الأورجانيزمي organismic model، والنموذج السياقي contextual model.
4) ينبغي الوعي بأهمية اتساق الفكر النظري والفكر المنهجي، وإعادة النظر في الأخطاء المنهجية، وأخطاء التأويل الإحصائي الشائعة محليا ودوليا، ومن بينها النظر في المتوسط الحسابي للمجموعة على أنه يعكس أداء المجموعة، في حين أنه ينطبق على عدد من الأفراد فقط داخل المجموعة.
5) أصبحت العلوم السلوكية والاجتماعية مطالبة بتعديل مسار الاستغراق في البحوث والدراسات المتمركزة حول المتغيرات nomothetic ومجموعات المشاركين، والتحول أكثر نحو الدراسات المتمركزة حول الأشخاص ideographic والخصوصية الفردية، والنظر بعمق في مبدأ أو قانون الخصوصية أو التحديد specificity principle أو Principle of specificity، بما يتناسب مع روح عصر اللاحداثة؛ إذ يجيب البحث عن الأسئلة التالية:
- ما السلوكيات النوعية المحددة،
- ومن هم الأفراد بالتحديد الذين تصدر عنهم هذه السلوكيات،
- وما الأماكن أو السياقات النوعية المحددة التي تصدر فيها هذه السلوكيات،
- وما الآماد الزمنية المحددة التي تستغرقها هذه السلوكيات،
- وفي أي تجمعات أو مجتمعات أو ثقافات نوعية محددة،
- وعند أي حقبة زمنية محددة أو نوعية في التاريخ،
- وما المخرجات المحددة التي تؤثر في ارتقاء العمليات النفسية؟
وأخيرا، هذه بداية عليها أكثر مما لها، لكني حاولت أن تكون بداية جادة قابلة للبناء عليها للاحتفاء بسحر وقيمة المئوية الميلادية لعالمنا التاريخي الجليل مصطفى سويف، واليوبيل الذهبي لقسمنا الأعز، واختصاصنا الذي لا نعرف غيره. فهل نبدأ في البرهنة على أننا جيل يستحق مصادفة هذه الصدفة التاريخية عميقة الدلالة، لكي ننطلق منها إلى أن نعمل معا من أجل قوة التغيير التحولي في الإطار الفكري والمنهجي لعلم النفس؟ لنستحق بحق أن نكون أبناء هذه المدرسة وتلامذة وأبناء وأحفاد الراحل الجليل مصطفى سويف.
آراء حرة
مئوية مصطفى سويف واليوبيل الذهبي لقسم علم النفس: دعوة إلى تجديد الفكر النفسي في السياق الحضاري المصري
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق