من بين كل الذين عرفتهم أحياء وامواتا آنست الحديث معهم في شجون الوطن وشئونه، يلح عقلي الصاخب بتساؤلاته في طلب لقاء طويل ممتد مع الفاجومي الشاعر أحمد فواد نجم ٠
يحدثني عقلي
في كل مرة يطرح فيها طلبه أن نجم وحده من يستطيع الإجابة على تساؤلاتي بمزيد من علامات الاستفهام، وأنه وحده، من يعرف كيف تفكر مصر وكيف ومتى تحرك أقدامها نحو الاتجاه الصحيح؛ فهو من خبر أهلها الطيبين البسطاء وهو من داس كل شبر في أرضها وهو من بلغ ذروة المعرفة بجوهر روحها ووجدانها٠
أقول مذكرا إياه: لقد مات نجم ولم يعد هناك مكان اسمه مجلس قيادة السطوح، بل وماتت عفريتته الصغيرة ابنة روحه زينب؛
يتركني ويعود عقلي الباطن لمحاصرتي في أحلامي فيأتيني نجم في المنام وأراه كما تصورته عيناي المظلمتان دائما وأخاطبه:" أريد الجلوس إلى جوارك في مجلس قيادة السطوح ليس لحوار صحفي لكن لرغبة محمومة بداخلي للاستماع إليك ربما لشعوري أنك وحدك من يستطيع بث الطمأنينة على مستقبلي ومستقبل حبيبتك وحبيبتي٠
يهيئ لي أني أرى ابتسامة في عينيه، ثم يغيب طيفه فأستيقظ من نومي٠
يعاودني الحلم نفسه على مدار ثلاثة أشهر، وكلما حدث حادث أو قرات تصريحا من تلك النوعية التي ترفع ضغط الدم بسرعة الصاروخ، حيث أوقن أنه لا جديد وأنهم ثابتون على ذات النهج الذي يشعل جمر علامات الاستفهام والتعجب وبركان الشك؛ يداهمني إحساس هذا الاحتياج إلى الاستماع للفاجومي فيما جرى ويجري٠
ليس من مناسبة لهذا المقال سوى هذا الإحساس الملح، رغم أني لم أكن من حواري نجم أو تلاميذه ومريديه٠
لم ألتقه في مجلس قيادة السطوح سوى مرات قليلة والهدف دائما كان إجراء حوار صحفي، مع أنه كان رقيقا معي ويناديني يا علوش؛ بل وكريما كرما لطيفا، فمن أول لقاء أصر أن ينزل بي من السطوح إلى شقته الصغيرة حيث عفريتته زينب وأمها لأنال حصتي من العشاء ومنابي من لحم الدجاج.
أكره الاستغراق في مشاعر الندم على ضياع فرصة القرب من رجل عاشق لمصر والأهم عارف صوفي من العارفين بدقائق حالها وأحوالها.
من أبرع مقولاته التي لا يجوز تصنيفها باعتبارها وجهة نظر شكلتها مجموعة أفكار وتصورات ومشاعر وتجارب إنسانية؛ وإنما التعامل معها كأنها نتيجة تحليل معملي له معايير ومقاييس علمية محددة:( مصر عاملة زي قدرة الفول تحط فيها فراخ وديك رومي ولحمة تطلعلك في الاخر برضه فول)٠
هذه العبارة ليست فلسفة أو مجرد كلام كبير ومجعلص بحسب نجم، أو تشبيه سطحي وساذج. تأمل المعنى جيدا، إنه يقول:" مصر أصيلة لا تغير طبيعتها ولا لونها، ولا أحد يستطيع أن يصبغها بثقافته وطريقة تفكيره، ولا أحد يفرض عليها كيف تتصرف".
بمعنى أنها تحتفظ بهويتها وسلامة وجدانها وضميرها مهما تنوعت الأجناس والثقافات التي تدخلها زائرة أو محتلة، ولا تجبرها صروف الدهر وظلم الظالمين وقهر الغاشمين على أن تتحرك وتبدي رد فعل كغيرها من الأمم التي قد تتعرض لما تتعرض له مصر، إنها وحدها من يقرر كيف ومتى يواجه، لذلك مصر دائما هى الفعل وليست رد فعل، فإن فعلت غيرت الموازين، وقلبت أحوال العالم، وهذا ما يميزها٠
ورغم هذه الإجابة التي تركها نجم لتكون جامعة مانعة لكل تساؤلاتنا وكل شعور ينتابنا بالخوف والشك تبقى رغبتي بلقاء عاجل معه ملحة٠
نجم الفاجومي، أعظم شاعر عامية صال وجال في عقل ووجدان مصر؛ حالة وعي ممتدة عبر آلاف السنين من العطاء والتأثير في كل ربوع الدنيا؛ حالة عابرة للزمان والمكان، بل والموت٠
غير أني محظوظ بصداقة واحد ممن ولدوا من رحم بنات أفكار وأشعار الفاجومي؛ إنه الشاعر حسين جعفر، الذي التقيته قبل ما يزيد على ربع قرن في مجلس قيادة السطوح يقول شعرا فيه روح قصائد نجم، فلما اقتربنا علمت أن فيه أيضا من فاجومية نجم، الأهم أنه عاش هائما في جغرافيا مصر يبحث عن لقمة عيش كفلاح في مزرعة، أو عامل في مصنع، أو صحفيا باحدى صحف القاهرة، المهم أن يجد قوت يومه بشكل حر كي يستمر في كتابة قصائد وأشعار تتغنى بعشق مصر٠
جمعتنا ليلة صارحته فيها بأنه لولا شعوري أن فيه من روح نجم ما تعمقت صداقتنا، رغم لقاءاتنا المتباعدة، وكانت فرصة لأطرح عليه سؤالي: لماذا أشعر أني بحاجة للجلوس مع نجم؟ فهو أقرب الناس إليه روحا ووجدانا، ومثله في هذا اليقين تجاه مصر.
كانت إجابته بأن أمضينا ليلة تلا فيها على مسامعي آيات المعاني في شعر الفاجومي، واستحضر على اليوتيوب أحاديثه وبرامجه، والتزم صمتا عجيبا؛ صمت نطق
عبارة واحدة سمعتها بعقلي:( اسمع كلام حبيبك في برامج مختلفة عبر سنوات طويلة ستجد فيها إجابات نجم على ما تريد طرحه من تساؤلات اليوم، وهذه الحيرة وذاك الخوف، الذي دفعك لطلب مقابلته الآن )٠
كانت ليلة في حب نجم بحق، وبالأحرى في عشق مصر بحديث زاد معه الحنين والشوق لمصر التي عرفناها، حيث السكن والطمأنينة والفرح واليقين في غدها٠
طبيعي ألا أكون قد بلغت مبلغ الفاجومي، وابن رحم أشعاره حسين جعفر في اليقين بغد مصرنا، لكني أيقنت وآمنت بأن من جعل مصر أم الدنيا هم هؤلاء الحرافيش وليس سواهم الذين امتزجوا بملح أرضها من الفلاحين والعمال والطلبة والفقراء والمحرومين، إلا من زوادة عشق هواها ونيلها وترابها.