شهدت مصر خلال عام 1952 ثلاثة أحداث مُهَّمة ذات ارتباط وثيق بالعلاقات المصرية الألمانية، مما يجعلها مدخلا طبيعيا لدراسه هذه العلاقة، وهى قيام ثورة 23 يوليو 1952 وتغيير نظام الحكم فى مصر، وما تبع ذلك من تحول كبير فى السياسة الداخلية والخارجية للحكومات المصرية. وعقد اتفاقية التعويضات الألمانية لإسرائيل فى 10 سبتمبر 1952، تلك الاتفاقية التى ساعدت إسرائيل على البقاء، وتمكنت فى ضوئها من إنشاء ما عُرف بـ " العلاقات الخاصة" مع ألمانيا الاتحادية. كما نبتت فى ظل هذه الاتفاقية العديد من اختلافات وجهات النظربين القاهرة وبون، وكانت بداية مشاكل سياسة ألمانيا الاتحادية الشرق أوسطية. وتبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وجمهورية ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية.
من هنا تأتى أهمية كتاب "السياسة الدولية وخفايا العلاقات المصرية الألمانية" للدكتور وجية عبد الصادق عتيق والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو فى الأصل أطروحته للدكتوراه باشراف من البروفسيور ألكسندر شولش Prof.Dr.Alexander Schoelch والتى يبحث من خلالها الجانب السياسى للعلاقات المصرية الألمانية خلال الفترة من 1952 إلى 1965.
بينما كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها والمعارك بين دول المحور والحلفاء تدور رحاها ولم تتضح بعد نهاية تلك الحرب، كانت الحركة الصهيونية فى الولايات المتحدة تفكر فى كيفية الحصول على تعويضات من الشعب الألمانى عن اليهود الذين يقال أنهم قتلوا، ولهؤلاء الذين بقوا فى قيد الحياة ولكن فقدوا ممتلكاتهم فى عهد النازية. وبدأت التصورات الأولى عن هذه التعويضات تطرح للمناقشة منذ عام 1943، عندما كتب أحد اليهود الصهاينة فى أمريكا ويدعى جورج لاندوير مذكرة تدارسها بين زملائه، تتضمن مطالب اليهود فى حالة انتهاء الحرب لصالح الحلفاء.
ثم طرحت هذه الفكرة بشكل علنى على بساط البحث فى المؤتمر اليهودى العالمى، الذى عقد فى العام نفسه بمدينة نيويورك. إلا أن المشاركين حينئذ فى المؤتمر اكتفوا بإعلان مبدأ حق اليهود فى التعويض، دون رفع أيه مطالب إلى حكومات الحلفاء، فالوقت لم يكن مناسبا حتى يبحث المؤتمر الأمر بجدية، وتقرر الانتظار حتى تنتهى الحرب بهزيمة حكومة " الرايخ الثالث فى ألمانيا".
ومن الواضح أن التحولات التى شهدتها المعارك الحربية منذ عام 1943 لصالح دول الحلفاء، هى التى شجعت الحركة الصهوينية على التطلع للمشاركة فى جنى النصر القريب على دور المحور. كما كان تنبئها بنتيجة الحرب، وتمعنها فى الأحداث، دافعًا لإرساء مبدأ التعويضات فى ذلك الوقت المبكر بين أوساط اليهود.
وإذا كان ظهور حق اليهود فى التعويضات فى المحافل الصهيونية تعود بالدرجة الأولى إلى لاندوير، فإن فضل إبرازها أمام الرأى العام يعود إلى زجفريد موسى Siegfried Moses – الذى ساهم فيما بعد بدور فعال فى إقامة إسرائيل – حيث نشر فى بداية عام 1944 كتيبًا صغيرًا فى الولايات المتحدة الأمريكية حول مطالب اليهود من ألمانيا بعد الحرب.
وكانت التصورات الأولى للحركة الصهيونية عن التعويضات غير واضحة تمامًا. ففى البداية كانت تدور حول حق الأسر اليهودية التى تضررت ماديًا من النازية فى الحصول على تعويضات مباشرة وبالطرق القانونية من ألمانيا. وبقيت مشكلة من سيكون له حق تمثيل اليهود الذين لم يعد لهم وجود من ضحايا الرايخ الثالث غامضة، كما ظل أمر تقدير هذه التعويضات معلقًا.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء واستسلام ألمانيا دون قيد أو شرط فى 8 مايو 1945، بدأت الحركة الصهيونية تبلور أفكارها بخصوص التعويضات، وتتخذ الخطوات الفعلية لاستثمار نشوة النصر لدى الحلفاء. فقد أرسل حاييم وايزمان Chaim Weizmann على الفور مذكرة إلى المنتصرين فى 20 سبتمبر 1945 سجل فيها حق اليهود فى الحصول على تعويضات، وقدر خسائر اليهود من جراء اضطهاد النازية فى تلك المذكرة بمبلغ مليارى جنية إسترلينى.
وفى يوليو 1946، عقد قادة دول الحلفاء مؤتمرهم الموسع فى باريس لبحث قضايا التعويضات المطلوبة من ألمانيا عن خسائر الحرب، والغرامات المالية التى تطالب بها مجموعة الدول المنتصرة- وعندئذ توقع زعماء الحركة الصهيونية أن ينظر المؤتمر فى موضع تعويضات اليهود. ولكن كان للحلفاء أثناء ذلك المؤتمر مشاغلهم وخلافاتهم الخاصة حول قيمة التعويضات التى يطلبونها لأنفسهم من الألمان، كما أنهم انقسموا حول أسلوب تحصيل هذه التعويضات.
وعلى هذا فلم ينظر مؤتمر باريس فى مذكرة وايزمان، ولم يتقرر شىء محدد تجاه مطالب الصهيونية، ولا يعنى عدم النظر فى مذكرة وايزمان أنها رفضت من قبل الحلفاء، ولكن كل ما هنالك أنه لم يصدر عن المؤتمر ما يشير إلى هذه المذكرة، فانهماك المنتصرين فى إعادة ترتيب الأوراق والمواقف بعد أن خمدت نار الحرب، أدى بهم إلى إرجاء النظر فى العديد من القضايا فى وقت لاحق، ومنها مطالب الصهيونية.
ظلت قضية تعويضات اليهود تثار من وقت لآخر من قبل الحركة الصهيونية، وتجد من يشير إليها من فترة لأخرى فى سراديب الاجتماعات واللقاءات بين وفود الحلفاء، إلى أن حصلت هذه القضية على قوة دفع كبيرة عام 1948، عندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل. وفى الوقت نفسه، أعلن قادتها أن إسرائيل ممثل شرعى وقانونى ليهود العالم، وأنها مؤهلة للتحدث فى مسألة التعويضات باسم كل اليهود الذين فقدوا أرواحهم وممتلكاتهم، وذلك بجانب المنظمات اليهودية الأخرى الممثلة فى مؤتمر المطالبة بالتعويضات الألمانية.
وللحديث بقية