ألهمت أسطورة أوديب الأغريقية الكاتب "محمد سلماوى " أحداث روايته القصيرة الجديدة التى صدرت مؤخرا عن دار الكرمة بعنوان " أوديب فى الطائرة ". وكانت قد ألهمت من قبل العديد من الكتاب، ليصبح جوهرالأسطورة مادة لعشرات المسرحيات والدراسات التاريخية والنفسية،كان بينها كتاب آسر شهيرمثير للجدل والتأمل،ترجم إلى العربية قبل سنوات، للباحث والطبيب النفسى الروسى إمانويل فيليكوفسكى عن " أوديب وإخناتون بين الأسطورة والتاريخ "سعى خلاله لإثبات أن أوديب هو نفسه إخناتون فى التاريخ المصرى الفرعونى.كما كانت سندا لنظرية " فرويد" فى التحليل النفسى التى تذهب إلى أن الرغبة الجنسية عندما تأخذ فى التشكل لدى الذكور،يبدأون فى التعلق بأمهاتهم والغيرة عليها من أبيهم فيما بات يعرف بعقدة أوديب.
لم يستحضر سلماوى الأسطورة ليحدثنا عن التاريخ والماضى،بل هو يستنطقها للحديث بصيحات من القلق والتحذير والأمل ،عن الحاضر والمستقبل. وهنا لامجال للتساؤل لماذا الأسطورة وهويتحدث عن واقع معاصر يفصح عن نفسه بوضوح بالحديث عن ثورة 25 يناير وعن مبارك وعصره.لعل المجال هنا لا يتسع سوى للاستنتاج. إنه شكل فنى جذاب،يثير بمفارقاته الجمالية ووقائعه السحرية، فضول القارئ،ويمنحه متعة التلصص على خيال الكاتب وهو يقفز بخفة وإيقاع سريع،من تاريخ إلى آخر، ويتنقل ببراعة فى السرد وسهولة فى الأسلوب بين التواريخ والشخصيات والأمكنة،لكى يصل احداثها ببعضها البعض ،ويمسك بمفتاح الرواية، ويدخل إلى عالم المؤلف، فيصل إلى الرسالة التى تنطوى عليها. والقارئ إذ يفعل ذلك سوف يدرك، أن الرسالة ، هى نفسها التى هيمنت على عالم سلماوى فى مسرحياته وقصصه وسيرته الذاتية. إنها الآلام والخسائر التى يجلبها الاستبداد على الشعوب،والحرية التى تشكل طوق النجاة، ومشعل النور الذى يضئ مسيرتها ويحددمصيرها وينهض بأحلامها، ويصنع تقدمها.
وفى روايته يزواج سلماوى، بين حكاياتين صنعهتما جرائم الفساد والاستبداد والتكبر والاستخدام السىء للسلطة وإنكار الحقائق. حكاية اللعنة التى حلت بمدينة طيبة بعد أن تقلد حكمها الملك أوديب وتزوج أرملة الملك السابق، وانجب منها فتاتيتين.لكن طيبة بعد فترات من الازدهار،توشك على الخراب والبوار،وتحل المجاعة والبطالة والضياع،بأهلها وتصاب نسائها بالعقم . أما الحكاية الثانية فهى للفنان الشاب المتفوق الثائر،الذى يحرمه الفساد الإدارى من حقه فى التعيين فى معهد السينما.،ويشارك بعد الافراج عنه الثائرين على الظلم والفساد مظاهراتهم فى الميادين.ويستطيع أن ينجح فى إكمال تصوير فيلمه الوثائقى عن الثورة،بمساعدة من حبيبته ،ومن مناضل قديم يمتلك أستوديوضخما وحديثا للتسجيلات، حيث جمعت ثلاثتهم الثورة،وغدوا أصدقاء:الفنان الشاب والحبيية والمناضل، الذى تعرض للتعذيب فى السجون بسبب مواقفه السياسية، فتدمرت حياته الأسرية، وهجرته زوجته ومات طفله الوحيد. وربما كان ذلك أحد الدوافع التى جعلته يدعو الحببين بكرم وأبوة حانية إلى إتمام زواجهما داخل الاستويو الخاص به. كما تحمس فى الوقت نفسه لكى يدرج الفيلم الوثائقى عن الثورة فى عروض مهرجان دولى للأفلام التسجيلية .
أما أوديب الذى رباه راع وعلمه الفروسية،خارج موطنه الأصلى فى طيبة،التى يعود إليها ويتزوج من أرملة ملكها المقتول،ويصبح بطلا شعبيا،بعد أظن أهلها خطأ أنه قتل الوحش الرابض على أبواب المدنية يهدد أمنها،بينما كان القتيل هو أبوه،والزوجة هى أمه. وبسبب ذلك تحل بللعنة على المدينة. وحين يتكشف الأمر،يرفض الملك أوديب الاعتراف بمسئوليته عن خراب طيبة، وينسب عزله من الحكم إلى مؤامرة حاكها معاونوه،لكنه هو ينكر ذلك يعترف بتسهيل الفساد لهم. تموت زوجته كمدا،ويعزل فى حراسة مشددة،ويوضع فى طائرة لإيداعه فى السجن حيث يموت.
استمتعت كثيرا بقراءة النص دفعة واحدة، وضحكت بعدما تبين لى ولع المؤلف الدائم بالتنديد بالحياة الحزبية وانتهازيها.لكن أكثر ما لفت نظرى،أن يمتلك من هو فى موهبة سلماوى وثقافته وخبرته العملية،الشجاعة الأدبية لكى يقول أن الأخطاء التى وقع فيها أوديب العصرى، ليس من الإنصاف أن تنزع عنه صفة البطل التراجيدى،الذى صنعت قصته مواجهة المحن لتحولها من السعادة إلى الشقاء.
آراء حرة
عندما وضع سلماوى أوديب فى الطائرة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق