من أعجب الشخصيات التي ابتكرها الأديب العالمي نجيب محفوظ في روايته "زقاق المدق" الصادرة عام 1947 شخصية "زيطة صانع العاهات"، وقد جسدها الفنان القدير توفيق الدقن في الفيلم المأخوذ عن الرواية "زيطة" مصنع شيطاني لإنتاج المتسولين يذهب إليه العاطل ليبتر له عضوًا أو "يفقع" له عينًا حتى يستطيع أن يبتز عطف الناس بالمبتور من جسده وتتحول "العاهة" إلى مصدر رزق، بل هي مصدر الحياة.
الغريب أن كل الطارقين لباب "زيطة" مقبلين على تلك العمليات البشعة والبدائية لتقطيع أجسادهم والتضحية بأعضائهم. لم يفكروا أن هناك عضوًا غير مستخدم يمكن التنازل عنه بسهولة وبدون ألم، إنه "العقل". فكان من السهولة ادعاء الجنون للتربح، خاصة أن غياب العقل في الكثير من المجتمعات العربية يضفي على المجنون صفات تضعه في مراتب "البركة" فيصبح من الأولياء والقديسين؟ لأنه لا يستخدم عقله. ولكن يبدو أن زبائن "زيطة" كانوا يجدون في إهلاك الأعضاء المرئية وسيلة أكثر إقناعًا للحصول على المال.
الأكثر عجبًا أن تجد "زيطة" وزبائنه الكثيرين في واقعنا المعاش حاليًا، مقتنعين أن هناك مؤامرة كونية عليهم تعيق تقدمهم وتقف حائلًا أمام رفاهيتهم. وعندما تسألهم لماذا يتآمر عليكم العالم؟ يقولون: يريدون إحداث فتنة في الدين ويعرقلون معرفتنا! هكذا... هل يمنع المتآمرون نشر دعواتكم الدينية في بلادهم؟ هل يقيمون حدًا على من يغير دينه منهم؟ هل يمنعون بناء المساجد؟ هل يمنعون المسلمين من المناصب السياسية والعلمية؟ هذا من ناحية الدين. أما من ناحية العلم، هل أخفى المتآمرون عنكم سر تقدمهم ورفعتهم وحداثتهم؟ هل وضعوا أسرار هذه العلوم وتلك الحداثة في طلاسم سرية غامضة حتى لا تفهمون كيف تبوؤوا تلك المكانة ووصلوا لهذا الرقي؟ هل طلبوا منكم إعادة اختراع العجلة؟ إنهم ساروا في طريق معروف واضح المعالم في نظم الحوكمة والرقي والتقدم والعلوم الحقيقية. ومن يشير منكم إلى هذا الطريق تكفرونه وترجمونه وتخرجونه من دياركم، لأنه لم يعد يشبهكم وليس مبتورًا مثلكم. "زيطة وأتباعه" منهج حياة، يختارون من العلم الزائف منه، فهو الأسهل والأكثر انتشارًا في الأراضي الجاهلة، حيث الأرض ما زالت مسطحة! والتطور ملعون. والدجل وقراءة المندل هو علم الفلك لمعرفة الغيب وإرجاع الحبيب لا للوصول إلى القمر واكتشاف الفضاء. وهكذا تتبدل العلوم الحديثة بالتكهن في كهوف مريحة، أكثر ما يُقرأ فيها ليلًا ونهارًا "فنجانين القهوة الفارغة". وهكذا يتكأ زبون "زيطة" في أريحية، يمد يده الوحيدة ليأخذ المعونات ويسب ويلعن العالم المتآمر على عظمة كلامه وماضيه الشامخ وعظماء قومه ذوي الكروش الكبيرة.
إفيه قبل الوداع:
- واثق الخطوة يمشي ملكًا (أم كلثوم في الأطلال)
- وناقص الخطوة يمشي متسولًا يا ست.