ضغوط شديدة مُورست على الرئيس الأمريكي جو بايدن للانسحاب من الانتخابات الرئاسية المقبلة. وانتصرت مصلحة الحزب الديمقراطي أمام رغبة الرئيس بعد تزايد المخاوف من عدم قدرته على هزيمة منافسه الجمهوري دونالد ترامب، إضافة إلى تردي حالته الذهنية والعقلية. وفي كواليس صنع القرار حدث الكثير حتى يُقدم الرئيس على الانسحاب طواعية ودون إجبار، لكن هل الإجبار على التنحي عن السباق الرئاسي كان واردا بحسب القانون الأمريكي للانتخابات؟
تلك كانت المُعضلة التي يستوجب حلها بإخراج قانوني مناسب ليكون بايدن أول رئيس يتخلى عن ترشيح حزبه لفترة جديدة منذ الرئيس ليندون جونسون في مارس 1968. والإجابة حسمها قانونيون متخصصون في الانتخابات، وهي قول واحد (لا يمكن إجباره)! واتفق الجميع أن على الرئيس القيام بذلك طواعية. دارت مناقشات مطولة حول تناول الرئيس بايدن أدوية كفيلة بتأخير ظهور علامات الخرف، لكن الرأي الطبي أنها لن تنتشله من التعثر، وسيظل عالقا في زمن محدد، أو بتعبيرنا نحن "حُكم السِّن". ورغم تبني البعض من المقربين منه لفكرة أن الرئيس لديه مكتبه يدير السياسة ونائبته ومؤسسات تتولى الكثير من الأدوار اليومية والعاجلة، فإن سببا آخر عجّل بحسم قرار الانسحاب، ليس له علاقة بالسياسة أو بخرف بايدن. مصادر مختلفة المشارب أشارت إلى الفلوس. نعم، هو المال كلمة السر وراء إثنائه عن موقفه، حيث انخفضت التبرعات لحملته بشدة، ولم تجمع حملته سوى ربع التبرعات المالية المطلوبة، وهذا يعني أن الأموال "جفّتْ" ولكي تعودَ كان لابد من مرشح جديد "يلم الشمل" بعد أن تفرّقَ!
كان استمرار ترشحه كفيلا بتقويض قدرة الحزب الديمقراطي على القيادة في أي من مجلسي الكونجرس بالانتخابات المقبلة، خاصة بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي أن بايدن لا يستطيع هزيمة ترامب. أعضاء ديمقراطيون في الكونجرس تجرؤوا ودعوا بايدن علنًا إلى الانسحاب من السباق. بعض وسائل الإعلام أحصت عدد النواب الذين شاركوا في الدعوة، وذكرت بأنهم عشرون نائبًا ديمقراطيًا؛ بينما أشارت صحف أخرى إلى أن العدد أكبر من ذلك بكثير وأن ثلثي الناخبين يرغبون في رؤية مرشح ديمقراطي جديد يعكس حاجتهم إلى إجراء تغيير. ذلك التوجه للناخبين أصبح واضحًا خاصة بعد أداء ضعيف وحالة يرثى لها ظهر عليها بايدن في مناظرته أمام ترامب الشهر الماضي حتى أن الصحفي توماس فريدمان القريب من دوائر صنع القرار كتب مقالا بعد المناظرة أشفق فيه على بايدن وقال إن المناظرة أبكته وعلى بايدن الانسحاب لحفظ كرامته. وقد أظهرت استطلاعات الرأي بعد المناظرة أن شعبية بايدن في تراجع، رغم محاولاته المستميتة لاسترجاع الثقة التي فقدها بين ملايين الأميركيين، ومن هنا توقف المانحون عن ضخ تبرعاتهم.
ولعل كل من شاهد الرئيس بايدن خلال مؤتمره الصحفي عقب انتهاء أعمال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخيرة في واشنطن، توصل إلى موقفه الرافض للانسحاب؛ حيث أجاب على سؤال حول نيته للانسحاب من عدمه، قائلا: "بالتأكيد لا"، وكرر ذلك مجددًا عندما ذكر بأنه "لا توجد محادثات حول ذلك على الإطلاق". ذلك الموقف الذي أبداه بايدن قد يكون عاديًا في دول أخرى تُنعتُ بالعالم الثالث أو حتى الرابع؛ لكنْ لم تسمح المؤسسات باستمراره في دولة عظمى تنتقد وتأمر وتنهي دول العالم. ومورست عليه الضغوط حتى يتراجع ويتنحى عن السباق قبل أن تتسرب تقاريره الصحية لوسائل الإعلام، و"بيدي لا بيد عمرو" كان هو السلوك الذي يحفظ صورته ويحميه وحزبه من الفضيحة.
الآن، فرص هاريس للترشح هي الأكبر رغم وصف هذه الخطوة بـ "المقامرة" غير المسبوقة من قبل الحزب الديمقراطي، حسب تقرير لوكالة رويترز؛ كاميلا ديفي هاريس أول نائبة لرئيس أمريكي هو جو بايدن، هي محامية على مشارف الستين، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا منذ عام 2017، وستكون أول امرأة ملونة من أسرة إفريقية مهاجرة تترشح للبيت الأبيض في بلد انتخب رئيسا واحدا ملونا ولم ينتخب امرأة للرئاسة في تاريخه الذي يتجاوز القرنين. نفس هذه العوامل التي شرحها التقرير لشرح المقامرة والمغامرة يعتبرها آخرون حيثيات الرهان على الفوز حيث ستشعل حماس الناخبين بجذب أصوات السود والمهاجرين والشباب وراغبي التغيير، كما أنها تعيد ثقة المتبرعين للحملة الانتخابية بجذب المزيد من التمويلات.
وبعيدًا عن هذه القضايا الداخلية، يبدو أن هناك أمرًا آخر محط اهتمام الإعلام الإسرائيلي الذي اندفع لتحليل شخصيتها من "يوم مولدها" ومواقفها حتى في أحلامها وخيالها، من غزة وروسيا والصين إلى دول الشرق الأوسط! هذا هو طبعا مربط الفرس، وبقدر ما ستبدي هاريس من دعم للكيان المحتل وتغمض عينيها عن الإبادة ضد الفلسطينيين بقدر ما ستزيد فرصها في السباق نحو البيت الأبيض، وسيتضح أيضا إلى أين نتجه في العالم العربي!