كادت "فاطمة بنت المثنّى" أشهر قابلة فى مرسية بل فى الأندلس كلها أن تصطدم بالوزير "علي بن محمد بن عربي" أثناء خروجه من منزله، لولا أن أوقفها بيده بكل رفق، وهو يشيد بهمتها واهتمامها بعد استدعائها عندما بدأت آلام وضع جاريته منذ ساعات الصباح الباكر.
اعتذرت له بخجل عن هرولتها، لكنها فوجئت بذهابه وكادت أن تسأله كيف يترك جاريته فى هذا التوقيت، لكنه كان مشهودا له بسرعة البديهة ففهم نظرات عينيها فقال مطمئنا لها:
-لن أتأخر كثيرا سوف أذهب لأستاذن فى اجازة يومين.. دخلت القابلة على عجل وسط تجمع من النسوة غير قليل.. كانت هذه مقدمة للحديث عن القابلة فاطمة فى رواية "موت صغير"، والتى أبدع فيها الروائى المتميز "محمد حسن علوان" بأسلوب شيق وآخذ فى إبراز دورها فى حياة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربى، إذ جعلها فى الرواية مرضعته ومربّيته، وأسند لها بطولة ودورًا جوهريًا في سيرته رغم قلة مساحة ذكرها فى الرواية.
كانت الجارية تتألم، وفجأة اعتصرت يدها طرفي الفراش من شدة الآلام، ولدت بعدها وغشى عليها فور الولادة، فحملت القابلة الوليد وغسلته وراحت تمسح على وجهه كما تفعل الأمهات.
وفى الرواية تعرف أن الوليد قلبه تعلق بها التعلّق الأول، وهى أيضا اتخذته ابنًا روحيًا لها منذ حطت عيناها على وجهه وغمرته بحنانها الجارف.
وفى السرد الجميل يتحدث الشيخ الأكبر عما حدث بعد ولادته على لسانه:
حملتني فاطمة إلى أبي ذلك المساء فهشّ وبشّ.. وعلمتُُ فور أن وقع بصري على وجهه المستدير أن ولادتي هي تأويل الشامة التي عاشت تحت عينه اليسرى طيلة حياته وبشّرته بها فاطمة
"لاحظ هنا أن الروائى يريد ان يجعل لهذا الوليد معجزات"
قالت القابلة بصوتها الجميل:
يا علي، إن موقع الشامة من وجهك يعني أنه يولد لك ابنٌ يرفع لك ذكرك ويحفظ لك قدرك، ولكن مكانها تحت عينك يعني أنه يخالف دربك".
هكذا أراد الروائى المتميز أن يدخلك إلى عالم التصوف، ويمهد إلى حبكة الرواية، وذلك باتخاذ تأويل القابلة منطلقا لكى يجذبك بذكاء إلى عالم الصوفية، ويجعل الدهشة لا تفارق خيالك.
بعدئذ مات الملك محمد بن مردنيش، فقرر والد الشيخ الأكبر ترك مرسيّة والرحيل إلى إشبيلية، وملأت فكرة السفر الطفل الصغير محي الدين غبطةً وسعادة.
وأثناء استعدادهم للسفر خرجت معهم القابلة "فاطمة" عازمة أن تتوجه إلى "قرطبة"، وفى مفترق الطرق عندما تأهبت القابلة إلى طريقها ذهب الطفل "محى الدين" ليسلم عليها، فطلبت منه أن يدنو منها، وعندما اقترب قالت له:
-فى إشبيلية وتد من الأوتاد الأربعة ولا شك.. فسألها الطفل الصغير، "ومن هم الأوتاد؟ ردت بابتسامة جميلة، أربعة يحفظون الأرض من السوء.
"وأنت قد تسأل وما هو الوتد.؟ أقول لك إن الوتد هو أحد مراتب الصوفية، وهو يرمز إلى أن المتصوف قد ارتقى بايمانه، وعندما يقال لأحد إنه من الأوتاد، أى أن الله يثبت به الأيمان فى قلب من يهديه مثلما يثبت الأرض بأوتادها".
وفى الرواية سيفاجئ الروائى القارئ فى سردة الممتع بكل وتد من هذه الأوتاد الأربعة تباعا".
وقبل أن تذهب سألها الطفل محي الدين لكن كيف أعرف الأوتاد؟
أجابت بابتسامة: هم يعرفونك.. اطمئن.. لكن الطفل لم يكتف، سألها كيف أجدهم قالت بصوت حنون هم يجدونك، ثم ضمته إليها، ودست كفها في صدره وأغمضت عينيها، وقرأت فاتحه الكتاب، ثم نقرت بإصبعها على موقع قلبه تماما وقالت: له طهر قلبك ثم اتبعه وبَعدئذٍ يجدك وتدك.
عندما كبر الشيخ الأكبر قال عن هذا الوداع:
كنت طفلا لا يعي آلام الفراق فاحتفظت ذاكرتى بوداعها وتألمت كثيرا بعدما كبرت ولك أن تعرف أن آلام الأولياء مثل الديون التى لا تؤخذ من الأطفال ولا تسقط بالتقادم!
الأسبوع القادم بإذن الله نعرف لمن كتب الشيخ الأكبر محي الدين بن عربى ديوان "ترجمان الأشواق".