عندما كنا أطفالا، كانت ولا تزال بلدتنا تطل على نهر النيل، كنا نسعد سعادة بالغة عندما نسمع صوت الباخرة النيلية التي تقل الأجانب من جميع الجنسيات، وكنا حتى نترك موائد طعامنا ونهرول مسرعين إلى الشاطئ حتى يلتقطون لنا الصور التذكارية، مثلما كان ولا يزال يحدث مع بعض السياح الذين يزورون الأماكن الأثرية.
لكن عندما نضجنا أدركنا أن التقاطهم لصورنا لم يكن عشوائيا وإنما مثلما يطلق عليه علم الانثروبولوجيا، دراسة طبوغرافية للشعوب، عاداتنا، تقاليدنا، قيمنا، حتى ملابسنا على اختلاف أوساطنا الإجتماعية، لماذا كل ذلك.
أدركنا كلما ازددنا فى الدراسة وتطورت معارفنا أن ذلك للمقارنة وقد يكون للمقاربة والإستفادة من الشعوب الشرقية ولا سيما على وجه الخصوص الشعوب العربية والإسلامية.
السؤال لماذا بدأت مقالتي بهذه المقدمة.؟!
الإجابة قد تكون واضحة بذاتها لأرباب التخصص، وقد تحتاج توضيح لغير المتخصصين، إن العرب والمسلمين مستهدفون منذ ظهور الإسلام، ليس العرب والمسلمين وحسب، بل الاستهداف لكل حضارات الشرق القديم.
هذا الاستهداف يحمل بعدين، أولهما البعد الإيجابي، فبعدما يرى المستشرق النهضة الحضارية ينقلها حتى يستفيدوا منها بني جلدتهم، وهذا جانب إيجابي بالنسبه لهم.
أما البعد الثاني فهو البعد السلبي وهذا بالنسبة لنا فعندما يشاهد مثلا من يقضي حاجته فى النيل أو أي أمر سلبي سيشوه من خلاله صورتنا.
المهم يستفيد منا بشتى الصور.
ثم نأتي إلى أمر مهم على الأقل من وجهة نظري، وأدعوكم للاتفاق أو للاختلاف معي، ألم يشتاط الغرب غضبا عندما رأى هذه الصحوة العلمية والثقافية التي شهدتها البلاد الإسلامية والعربية إبان القرن الرابع الهجري، كيف حدث هذا الإزدهار وما مقوماته الرئيسة وما هذه الصحوة فى كل المجالات.
ومن هنا راح أباهم الذي هناك ولكل عصر أبا هناك، راح يوظف جنوده المأجورين تارة بالمال وتارة بالجاه والسلطان وتارة ثالثة بالوعد والوعيد.
ماذا أنتم فاعلون أيها الجنود، كيف نخترق هذا المد الحضاري، قال كبيرهم نغزوهم عسكريا، يرد إلههم، لن يجدي معهم فقد غزوناهم وفشلنا، ائتوني بفكرة أخرى، رد أحد السدنة قائلا، نسلط عليهم مغريات الحياة المادية من مأكل ومشرب وملبس ونغرقهم فى بحور من الخمور، رد شيطانهم الأعظم قال سيستفيقون وسينهضون من جديد.
رد الذي عنده علم من الكتاب، أقصد عنده علم بحالنا، بمعنى الذي يحيا بيننا يأكل طعامنا ويشرب شرابنا وقد يصلي صلاتنا لكنه كذاب وأفاق ومخادع ومزور ومتنكر مرتديا عباءة الدين لكنه مآرق منه كما يمرق السهم من الرمية، قال الرأي عندي يا سيدي، فبعد أن يقبل يد كاهنه الأعظم، يقول لا طاقة لنا بالعرب والمسلمين إلا فى حال واحد، ما هو أيها التلميذ النابه، قال ضربهم فى معتقدهم ودينهم عن طريق التشكيك فى ثوابتهم قرآنا وسنة، كيف أيها الشيطان الصغير، يبدو أنك ستترقى قريبا مراقي الكبار، كيف السبيل دلنا.
قال، نحول المعقول إلى لا معقول، بمعنى نضرب فى الثوابت، نشكك فى القرآن الكريم وقصصه ومعجزات الله، ونوجه جل اهتمامنا إلى تحويل المحكم متشابها والمتشابه محكما، اضرب مثالا على ذلك المحكم ما لا شبهة حوله ولا مراء فيه، كآيات التوحيد ووحدانية الله تعالى، كيف نعبث بها ونحولها إلى متشابهات، يرد الشيطان الأعظم في هذه النقطة بعينها، وما قولك فى آيات العبادات والمعاملات والمواريث، يرد قائلا دعهم فهم على خلاف فيها لا حاجة لهم بغواية.
يجلسه بجواره لكن ثم مسافة بينهما، فيرد عكروت من الأبالسة فيقول يا آبانا قد لا تفلح هذه الخدعة، عندي آليات فعالة ستصلح للفساد والإفساد، فساد العقول ومن ثم إفساد البلاد، الأولي، حملات التبشير التي نستهدف بها البلدان الفقيرة ونستغل عوزهم وفقرهم ونثنيهم عن دينهم وإذا فشلنا نتجه إلى الآلية الثانية، البحث الحثيث عن الشباب الطموح المتطلع إلى الحياة المعتنق أفكار تمردية ثورية على الدين تارة وعلى السياسة وعلى كل شئ ونتبناهم فى مدارسنا ومراكز بحوثنا وكلياتنا ونركز على بيت القصيد وهو الدين ونشبعهم بفكرنا ونحشو عقولهم ونملأ كروشهم حتى نصيبهم بالتخمة التي تنعكس على عقولهم فلا يستطيعون التفكير فيصبحوا آلات في أيدينا وحال جاهزيتهم نأتي إلى الآلية الثالثة، اطلاقهم كخفافيش ظلام يعيسون فى بلدانهم فسادا مكونين خلايا تعمل فى الخفاء مرتدين عباءة الدين، وما أن تتاح الفرصة نطلقهم فى الإعلام المسموع والمقروء والمشاهد، وإذا ما لاقوا قبولا وترحابا نزودهم بالأموال الكثيرة ثم الآلية الرابعة، الدعوة لأباطليهم عن طريق المراكز التي تحمل أسماء براقة لاعلاميين، صحافيين، متسترين خلف مصطلحات مطاطية ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
فيبدأون في نفث سمومهم طاعنين فى الثوابت تارة، في المعتقد، في القيم.
المهم إحداث بلبلة فكرية عند من يتلقى عنهم.
نعم الرأي أيها العكروت الصغير، تخطيت بخبثك شيطانك الأعظم.
لن يتركنا الغرب نهنأ بديننا ولا بإسلامنا على الرغم أننا نحترم كل الشرائع ولا نرغم أحدا على الدخول في الإسلام إلا أن الغرب الأوروبي كل يوم يدخل مئات الآلاف فى الإسلام وهذا سبب كاف لهذه الحرب.
فماذا نحن فاعلون حيال هذه الحرب الضروس.
أولا: أن نترك اللعن والسب والسخرية والاستخفاف بهؤلاء فمعظم النار من مستصغر الشرر، بل نعدة العدة لمواجهة هؤلاء، الرأي بالرأي والحجة بالحجة عن طريق منهج نقدي لا منهج جدلي سفسطائي.
ثانيا: خير وسيلة للدفاع الهجوم بمعني لا نجلس منتظرين هجومهم بل نهاجم نحن، وهجومنا هنا عن طريق الإصلاح، ذواتنا أولا، ثم شرح صحيح المنقول بمنهج عقلي يتماشى مع فقه الواقع، بمعنى توظيف النص لخدمة حياتنا وهذا سيبطل فريتهم أن ديننا دين غير صالح لهذا العصر وحداثته.
ثالثا: ضرورة ألا يقوم بهذه المهمة كل من هب ودب، بمعنى ليس كل من حفظ أيه أو حديث يتصدى للدعوة فهذا إجهاض لها.
وإنما أن يكل الأمر إلى أهله، سواء فى الندوات أو الخطب أو الإعلام أو المناظرات.
رابعا: تفعيل دور المؤسسات الدينية سواء الأوقاف أو الأزهر أو الإفتاء أو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أو جامعة الأزهر الشريف، ولو اقتضى الأمر تعديل لوائح المواد الدراسية باستحداث مقرراتنا تعليمية للتصدير لمثل هذه الأفكار الهدامة.
فإنه لابد أن تتوحد كآفة الجهود لمواجهة مثل هذه الخروقات وهذه الأفكار الهدامة.
أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان