سكينة غير معتادة ورغبة عارمة فى الهدوء والتأمل، وفيض من إنشراح يبهج الروح وامتنان للحظة التى قادتنى إلى تلك الحالة الروحية من الصفاء والشفافية.
كل تلك المشاعر أحاطتنى مجتمعة عقب مشاهدتى للفيلم الوثائقى الخلاب "رسائل الشيخ دراز "للمخرجة ماجى مورجان. الفيلم استغرق إعداده قبل أن يظهر للنور، نحو عشر سنوات من العمل المتقطع الذى لا يخلو من مشقة وعناء، وجدية واجتهاد، ومثابرة دؤوبة من أسرة فريدة محبة، تنتمى للفئة العليا من الطبقة المتوسطة من الأبناء والأحفاد، عكفت على حفظ المذكرات والوثائق والرسائل وترتيبها وتنسيقها وتبويبها بعناية فائقة، لكى تقود الصدفة المخرجة لتطلع عليها فى زيارة لحفيدته المنتجة الفنانة نهى الخولى وابنه السفير فتحى دراز، ويظهر الفيلم.
و خلال قراءة سينمائية واعية لتلك الأوراق، وشهادات الأبناء والأحفاد وتفسيرات الكتاب والباحثين والأكاديميين ممن تأثروا بفهمه المستنير للتراث الدينى، وزيارة لأماكن النشأة والعيش والدراسة فى دسوق والقاهرة وباريس والشارع الذى يحمل اسمه، تجلو السيرة المبهجة العطرة للشيخ دارز، ولمصر فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، التى لم تعد كذلك.
و خلال نحو ساعة ونصف وعبرصوت مؤثر للفنان صدقى صخر فى قراءة ملهمة لرسائل الشيخ لأولاده و حكى من ابنيه سامى ومحسن وأحفاده وزوجة إبنه عن الأثر الذى خلفه الأب والجد على مسارات حياتهم، تتشكل صورة نابضة بالحياة وحافلة بالرقى لواحد من علماء الأزهر هو الدكتور محمد عبدالله دراز (1894-1958) .
تحلى الشيخ دراز بشجاعة فكرية فى أبحاثه وكتبه، مقدما للغرب صورة مشرقة للإسلام.كما امتلك من الشجاعة الأدبية ما دفعه أن يعتذر عن تولى منصب شيخ الجامع الأزهر، حين تجاهل ثوار يوليو مطلبه بتحديد ضمانات لاداء مهام منصبه بشكل مستقل. وربما كان اعتذاره سببا وراء تجاهل الثوار لمنتجه الفكرى فى التراث الإسلامى.
شيخ أزهرى وسيم الطلعة خفيف الظل، وباسم الوجه-أى والله باسم الوجه - بلا ذقن ولا شنب كما عهدنا صورا جهمة لمشايخ فى زماننا. طالب من الأزهر من قرية نائية بدسوق فى كفر الشيخ، وابن لأحد علماء الأزهر، وزوج لأبنة عمدة، وأب لعشرة أبناء،يسافر إلى بعثة رسمية من الأزهر، لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السربون فى باريس، فى الثلث الأول من القرن العشرين، فيمكث بها اثنتى عشرة سنة.ووسط نيران الحرب العالمية الثانية، يمتلك الشجاعة لاستدعاء الزوجة والأبناء للعيش معه، ويحضر للمنزل بيانو لكى تتعلم بناته مهارة العزف، فيخرج من بينهم السفراء والأطباء والمتفوقون فى مجالات عملهم فى المؤسسات الدولية وميدان الفنون. وقبل هذا وبعده، يبهر بعلمه وشخصيته اللطيفة وقدرته الواضحة على الحكى وفكره الدينى النير والمتسامح، المحيط الأكاديمى الفرنسى، وهو يناقش باقتدار وجدارة رسالته لنيل الدكتوراه عن " الأخلاق فى القرآن ".
نجحت المخرجة وشريكتها فى كتابة النص تغريد العصفورى وفريق عملها الذى ضم أمجد شفيق وتامر عبدالله فى المونتاج وعماد نبيل فى التصوير وخالد الكمار فى الموسيقى وصدقى صقر فى الأداء الصوتى، نجحوا جميعا فى اختزال 64 عاما هى عمر الشيخ دراز فى ساعة ونصف،لم تقتصر على إبراز الطابع العاطفى للابناء والأحفاد، حول العالم الجليل، بل تخطت ذلك إلى الكشف عن المثل العليا التى زرعها للتعلم منها، والرؤية العميقةفى تفسير النصوص الدينية. وضع الفيلم رسائل الشيخ فى سياق تاريخى، وحولها إلى معرفة نابضة بالحياة. وجاء عنوانه: رسائل الشيخ دراز ترجمة واعية وخلاقة لمضمونه: إنها رسائل الشيخ لعصره وزمانه.. وإلى زماننا.