إيلى حاتم، محامٍ فى نقابة المحامين فى باريس، وفى المحكمة الجنائية الدولية أيضًا، وكان مستشارًا لكل من الدكتور بطرس بطرس غالى وزعيم المؤسس التاريخى للتيار الشعبوى الفرنسى جان مارى لوبان، وعضو فى حركة العمل الفرنسية وهى حركة ملكية أسسها الفيلسوف شارل موراس، وهو أيضًا مستشار لعدد من رؤساء الدول العربية والدول الأوروبية، كذلك أستاذ فى جامعة باريس.
وهنا يقدم لنا تحليله السياسى وتقييم أفكاره فيما يتعلق بالوضع الحالى فى فرنسا.. إلى نص الحوار
■ خطوة “البوكر” التى قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون تبدو أشبه إلى حد ما بمقامرة حل الرئيس جاك شيراك البرلمان فى عام ١٩٩٧.. كيف تقرأ الوضع الحالي؟
الأمر أكثر تعقيدًا، لأنه فى الواقع، ما فعله الرئيس شيراك جعل من الممكن أن يكون هناك اتجاهان، أى أغلبية أخرى، وهذا يعنى أنه كان هناك يمين ويسار.
اليوم نحن فى أربعة أرقام أخرى وهى أكثر تعقيدا بكثير، لأننا نعلم أن اليمين قد اختفى تمامًا أو شبه مع الحزب الجمهوري. اليسار، الحزب الاشتراكي، هو أيضًا وقد انهار تمامًا وتضاءلت أهميته تمامًا. ولدينا ظهور حزب التجمع الوطنى الذى هو الوريث والاستمرارية للفرنك الوطنى الذى أسسه جان مارى لوبان كما تعلمون، منذ الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٧، لم يعد حزب ماكرون يتمتع بالأغلبية، ولكنه يتكون من عدة أحزاب سياسية مثل آفاق وفرنسا إلى الأمام وما إلى ذلك. لذا فهو فى الواقع تجمع للأحزاب السياسية حول الرئيس ماكرون .
كما أن لديكم فى فرنسا، ائتلافًا اتخذ اسم "الجبهة الشعبية" وهو عبارة عن مجموعة من الأحزاب السياسية اليسارية، هناك ٤ منها، الاشتراكيون رأينا دورهم تضاءل تمامًا، وقد توغلوا تحت جناح "فرنسا الأبية" بقيادة هى جان لوك ميلونشون التى حصلت على أصوات أعلى بكثير من الآخرين، ويوجد فى هذا الائتلاف أيضًا حزب الخضر والحزب الشيوعي، لذا فالوضع ليس هو نفسه فى عامى ١٩٩٧ و٢٠٢٤.
فى الواقع، كان هناك خطر على الرئيس ماكرون لأنه لا يزال هناك تراجع فى شعبية الحركات السياسية حول الرئيس، كما رأينا ذلك خلال الانتخابات الأوروبية، ولست عالما بالغيب، لكن يبدو أن الرئيس ماكرون كان يفكر فى استراتيجية، ليسمح للتجمع الوطنى بالحصول على أغلبية نسبية معينة ولكنها مهمة للغاية، مما سيسمح له بالترشيح لهذا الائتلاف، ربما نوعًا ما تحالف يمينى مهم إلى حد ما بين حزب الجبهة الوطنية والجمهوريين، مما يجعله يتحمل مسئولية جميع مشاكل فرنسا، الاقتصادية والاجتماعية والمالية، لأننا يجب ألا ننسى أن فرنسا عليها ديون كبيرة للغاية نحو أكثر من ٣٣٠٠ مليار يورو ترهق خزينة الدولة والتى ستخلق اختناقا اقتصاديا وتعمق الرجعية الاجتماعية.
ونتيجة لذلك، ومع الصعوبة التى ستنشأ، فإنه سيضع كل شيء على ظهر هذه الأغلبية التى ستتحمل كل هذه المشاكل، وربما يتمكن هو نفسه من الاستقالة، وبعد سنوات قليلة، فى عام ٢٠٢٧، يعاد انتخابه كرئيس للبلاد حتى مع وجود أغلبية كافية لوعد الفرنسيين باستعادة الوضع وإرساء الاستقرار المفتقد. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو، إذ نرى أن الجميع فى هذه الانتخابات يخسر.
ومن المؤكد أن حزب التجمع الوطنى حصل على مقاعد أكثر مقارنة بالأحزاب السياسية الأخرى، أما الحزب السياسى الثانى الذى حصل على عدد كبير إلى حد ما فهو الرئيس ماكرون "حزب النهضة" الذى يشكل جزءا من ائتلافه، والحزب الثالث هو حزب "فرنسا الأبية: بزعامة ميلوينشون الذى جاء فى المركز الثالث.
■ السؤال الذى يطرح نفسه فى هذه اللحظة من سيشغل منصب رئيس الوزراء؟
لقد رأينا سريعًا، أن هذه التحالفات التى تتم خلال الحملة لن تكون هى نفسها بعد الحملة، ورأينا أيضًا الإعلان الذى أطلقه رئيس وزراء فرنسا السابق إدوارد فيليب؛ قال "لا أريد فرنسا الأبية فى الحكومة المحتملة"، ولم يعد الاشتراكيون يريدون ذلك ولا حتى صهاينة فرنسا. ونحن نرى أن الاتجاه الوحيد غير الصهيونى هو ميلونشون والآخرون وحتى الحزب الشيوعى وفابيان روسيل الذى أصدر إعلانا لصالح إسرائيل لجمع أصوات الصهاينة الذين هم بأعداد كبيرة ولهم أصوات مهمة جدا فى فرنسا.
نحن نرى الفوضى، نحن للأسف نتجه نحو أزمة سياسية وحكومية، أنا لا أتحدث عن الأغلبية الحالية، ولكن من الناحية السياسية، هذا يعنى أن رئيس الوزراء الذى سيتم اختياره، وأعضاء الحكومة، أيها الوزراء، سوف نواجه أو نعانى من لعبة عدم الثقة فى الحكومة من قبل الجمعية الوطنية.
إذا تمت إزالة فرنسا إنسوميز من تشكيل الحكومة، فسوف يكون لدينا ائتلاف عفوى من حزب الجبهة الوطنية مع حزب التجمع الوطنى للتصويت على حجب الثقة عن حكومة لن ترضى فرنسا إنسوميس، ولن يفهم الناس نهج اليمين واليسار المتطرفين، لكنهم ربما يفعلون ذلك لإفشال الحكومة التى ليسوا موجودين فيها.
لذلك، سيحاول الرئيس ماكرون دمج أعضاء الجبهة فى الحكومة، وستكون لدينا أيضًا خلافات داخل الحكومة، وبالنسبة لأى مشروع قانون، سنرى ظهور مشاكل سياسية حكومية مرة أخرى.
■ ماذا تعتقد أنه يحدث؟
لدينا اليوم أهم معارضة يقدمها حزب واحد، وهو حزب التجمع الوطني.
إن أفراد اليمينى الديجولى سيوتى من حوله (النواب) الذين ليسوا كثرًا ولكن شيئًا فشيئًا سوف يذوبون فى حزب الجمهوريون ليصبحوا أعضاء بالكامل تحت لون التجمع الوطني، لذا فإن هذه المعارضة ستنظر بشكل قاتم للغاية إلى كل ما سيفعله هذا الحزب المعارض للتحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة فى هذه الأثناء، ستمر الجمهورية الخامسة بأوقات عصيبة للغاية، تذكرنا بكل الأحداث التى جرت خلال الجمهورية الرابعة، التى أدت إلى قيام الجنرال ديجول بالجمهورية الخامسة.
لذا فإن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة مع تزايد أعداد المهاجرين، وخاصة اللاجئين، نراهم، فالحدود لا يمكن السيطرة عليها بسبب الاتحاد الأوروبى الذى فتح الحدود فى منطقة شنغن، نحن لا نرى هذه الأزمة فى فرنسا أو فى الدول الأوروبية فحسب، بل نراها فى أماكن أخرى. كنت مؤخرًا فى تركيا، ولاحظت الخوف التركى من ظاهرة المهاجرين من ١٢ مليون سورى على الأراضى التركية.
لذا فهى مشكلة دولية حقيقية ناجمة عن زعزعة استقرار العالم، ولا سيما العالم غير الأنجلوسكسوني، ونحن نرى أن بريطانيا العظمى نجت من هذه الآفة والولايات المتحدة على وجه الخصوص المشكلة المكسيكية ولكن تم حل ذلك من قبل الرئيس دونالد ترامب، ولكن هذا ليس بنفس الحجم فى أوروبا.
للأسف، سنشهد فى فرنسا فترة صعبة للغاية لمدة عام، خاصة أن ماكرون لا يحق له بموجب المادة ١٢ من الدستور حل الجمعية الوطنية مرة ثانية.
■ يمكنه أن يفعل ذلك فى عام ٢٠٢٥؟
بالتأكيد، لن يستطيع فعل ذلك مرة أخرى لمدة عام.
لقد سئم الفرنسيون من أحزاب اليمين واليسار التقليدية باختيار حزب صغير (فرنسا إلى الأمام) بقيادة إيمانويل ماكرون، لفترتى رئاسة ( ٢٠١٧-٢٠٢٢ و٢٠٢٢-٢٠٢٧ )، ثم اليوم ينتخبون فى الانتخابات التشريعية المبكرة حزبى اليمين واليسار المتطرفين فيما خرجت الأحزاب التقليدية القديمة من المعادلة فما رأيك؟
تعلمون أن التجمع الوطنى هو استمرارية للجبهة الوطنية، أسسه جان مارى لوبان، الذى شيطنته اللوبيات الصهيونية، خاصة فى بعض التصريحات التى أدلى بها فيما يتعلق بغرف الغاز إلخ وقال عنها إنها بعض تفاصيل من التاريخ، واعتبرت هذه تصريحات معادية للسامية. وهذا تطلب انتقادات كبيرة جدًا من اللوبيات الصهيونية، وهذا الأمر مازال مترسخا فى أذهان الناس.
نعم لكن مارين لوبن غيرت جلد الحزب وأفكاره وهذبتها وأصبحت أكثر عقلانية من أبيها ومع هذا يتحالف الجميع لإسقاطها فى كل انتخابات رئاسية أو برلمانية، فلماذا؟
نعم بالفعل غيرت كل شيء لكن ما زال الوضع قائما كما هو، فعندما وصلت مارين لوبان على رأس الحزب بعد والدها، تم انتخابها أول شيء فعلته هو إزالة شيطنة الجبهة الوطنية، وهى بذلك أفرغت محتواها بالتأكيد، لكنها ظلت مارين لوبان، احتفظت باسمها، حتى عندما خضعت للوبيات، لم يغفروا أبدًا لها رغم هذا التلوين فى الفكر والسياسة، بسبب الانتماء إلى الجبهة الوطنية فاليمين المتطرف، بالنسبة للصهاينة خاصة فى فرنسا يعتبر عدوهم الأبرز، كان لا بد أن يكون لهم عدو يحاربونه، أما لماذا يحاربونه لكونه أثناء احتلال النازيين لفرنسا تعاون مع الألمان وكان حليفهم، فبقيت هذه الصورة فى أذهانهم إلى الأبد كان من الضرورى إنشاء حزب سياسى آخر، وكان من الممكن أن تكون هذه استراتيجية أفضل، وهذا ما نصحتها به، لقد غيرت اسم الحزب من الجبهة الوطنية إلى التجمع الوطني، بل وغيرت قاعدت الحزب برمتها، وأزاحت والدها جانبًا، بل ركعت أمام اللوبى الصهيونى خصوصا الكريف وغيرت موقفها من حرب غزة وأصبح مؤيدا للصهيونية رغم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، هى تعمل ذلك ليس عن قناعة بل لإرضاء وإظهار استسلامها بشكل أكثر شمولًا لهم.
لقد أسقطت جزءا كبيرا من أفكارها مثل العلمانية، كان جان مارى لا يدافع عنها، لكنه ترك الجميع على طريقتهم، كذلك غيرت نهج الحزب من خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبى ومن الناتو، والعودة إلى الفرنك الفرنسي، والسيادة الفرنسية، وخاصة غيرت نهج الحزب من الدفاع عن الفلسطينيين والدفاع عن مسيحيى الشرق، كل هذا رفضته على الرغم من كل شيء، ظلت على قائمتهم السوداء، فهى تحمل لون عائلة لوبان، حتى ابنة عمها التى أزالت اسمها لتبقى ماريون ماريشال عانت من نفس المصير، فعائلة لوبان هذه لا تزال معادية للسامية بالنسبة لهم.
■ هل عانيت أنت أيضا من هذا الاضطهاد؟
نعم بكل تأكيد، لقد هوجمت وطردت من جامعة باريس لأننى كنت مستشارة جان مارى لوبان. لقد ألقيت كلمة معاداة للسامية فى وجهي.
■ هل تغير نهج فرنسا بعد إفلاس اقطاب السياسة التقليدية؟
فى فرنسا نقول إن السلطة تستهلك كل الأفكار، بمعنى آخر، منذ بداية الجمهورية الخامسة شهدنا تداولًا فى السلطة بين المجموعتين السياسيتين التقليديتين، فى البداية كانت قوة اليمين التقليدية عبر حزب، التجمع من أجل فرنسا، التى أنشأه الجنرال شارل ديجول، ما يسمى باليمين الديجولى التقليدى هو الذى كان فى السلطة، ثم حكم بعده اليمين جورج بومبيدو، ثم بعد وفاته حكم لفترة انتقالية رئيس مجلس الشيوخ، ثم تم انتخاب الرئيس فاليرى جيسكار ديستان الذى كان من يمين الوسط، ولكن لا يزال اليمين التقليدى يحكم فرنسا طيلة هذه الفترة ثم كان تم انتخاب الاشتراكى فرانسوا ميتران عام ١٩٨١ وهو من اليسار التقليدي، وهذا التناوب شهدناه أيضًا من خلال حزب التجمع من أجل الجمهورية اليمين التقليدى الذى أنشأه جاك شيراك الذى عاش لمدة ٥ سنوات فى تعايش سياسى مع الحزب الاشتراكى عام ١٩٩٧ حتى عام ٢٠٠٢.
ثم استمر اليمين التقليدى فى الحكم فى عهد جاك شيراك، ثم فى عهد ساركوزى الذى تولى السلطة من ٢٠٠٧ حتى ٢٠١٢، ثم جاء الاشتراكى فرانسوا هولاند إلى السلطة من ٢٠١٢ إلى ٢٠١٧.
وحاليا الرئيس ماكرون الوسطى الذى يحكم فرنسا منذ ٢٠١٧ وحتى ٢٠٢٧ وكما قلت، فإن هذه الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار، التى اتبعت نفس السياسة وأدت إلى نفس العواقب والإخفاقات المتراكمة، هى المسئولة عن حالة التدهور فى فرنسا.
■ هل تستطيع مارين لوبان أن تصبح رئيسة عام ٢٠٢٧ أم أن الفرنسيين لا يزالون غير مستعدين للتيار القومى الشعبوي؟
تعلمون أن التجمع الوطنى هو أقوى قوة سياسية فى البلاد وهو الحزب المعارض الوحيد الذى لديه أكثر من ١٣٠ نائبا فى مجلس الأمة، فى المقابل، هناك عدد كبير من الأحزاب، ولا يوجد فى أى من هذه الأحزاب نفس العدد.
أعتقد أن كل هذه الأحزاب الأخرى سوف تنغمس فى ممارسة السلطة ضد حزب الجبهة الوطنية، وستسلط عليها الأضواء التى سيتم توجيهها نحوها والتركيز على كل تحركاتها، وسنرى كل هذه الأحزاب المختلفة بما فى ذلك الأغلبية الرئاسية والجمهوريين تهاجم التيار الشعبوي، سيكون التجمع الوطنى الضحية، بالتأكيد سيستغل هذه الصورة ومن منطلق موقعه فى المعارضة للترويج لنفسه أمام الرأى العام وسيقول فى النهاية أنا المنقذ، أستطيع تقديم حلول للمشاكل وسيثبت نفسه كحزب السلطة.. أستنتج أن مارين لوبان هى رئيسة فرنسا المستقبلية.