الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

إبداع|| "نحاسٌ أنا".. قصة للكاتب حازم أبو المجد

اللوحة للفنان محمود
اللوحة للفنان محمود سعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قديمٌ أنا، حين رأيتُها أول مرةٍ كانت في الثلاثين تقريبًا، وكنتُ أوشكتُ على السابعة والثمانينَ من عمري. إرثٌ أنا، لكني أُعرض للبيعِ لأن نُحاسي اللامع لا يلائم الأثاث الحديث، ذاك الأثاث الهشَّ الذي لا يصلح لصنع الذكريات أو حِفظها، ولأن الوارث - ولا شيء آخر- هو من يجعل من الإرث إرثًا أو خردة.

لكنها ظهرت أمامي، عرفتُ كثيرًا عنها قبل حتى أن تتكلَّم، قديمٌ أنا، وخَبِرتُ عددًا لا بأس به من الناس، عرفتهم في أخصِّ حالاتهم، في كل جمالهم وكل قبحهم، كل عُريهم، إنسانيَّتهم ووحشيتهم، عرفتُ عنهم حتى ما لم يعرفوه عن أنفسهم: كيف تستقر أجسادهم حين ينامونَ عليَّ ويفقدون السيطرة تمامًا، أعرف لماذا توتَّر جسد فلان ونام كأنَّه في طابور لا يطيق الانتظار، وكيف يثقل جسد فلانة فوقي -عن المعتاد- حين تنام حزينةً، وكيف يخفٌّ -على الرغم من ارتخائه التام- بعد رعشتين أو ثلاثٍ تعصِرُ ماءَ مُتعتها، قديمٌ أنا، وعرفتُ عن ياسمين الجميلة أني سأعرف عنها كل شيء.

إن كان في حياتي متعةٌ أكبر من كل المتع، فهي بلا شكٍّ الليلة الأولى مع شخص جديد، جسد جديد، أنفاس جديدة، أحلام وهواجس ومخاوف وشهوات خاصة بصاحبها أو صاحبتها، لا تشبه غيرها إلا في التصنيف. كل الناس يخافون -مثلًا- لكنَّ خوف الباشا من افتضاح فحولته المرتخية يختلف تمامًا عن خوف عشيقته التي ضاجعت سائقه وطبَّاخه معًا فوقي في غيابه، كل هذا لا يضاهيه خوف زوجته الهانم من فكرة أنه يخونها. لكل خوف طعمه، وليس أمتع من تذوُّق طعم جديد بالنسبة إلى جمادٍ مثلي.

ليلتي الأولى مع ياسمين، بداية مغامرةٍ مفتوحة الاحتمالات، وأتحدَّى نفسي كعادتي - في أن أكون "السرير الذي نمتَ عليه لأول مرة بلا قلق كالأطفال"، يظن الناس أن الأمر متعلق بهم! بأنهم لا يستطيعون النوم خارج أسِرَّتهم، والأمر حقيقةً متعلق أكثر بالسرير ذاته، بقدرته على العطاء والحب.

لم أنم تلك الليلة دقيقةً ونامت هي كطفلةٍ بعد يوم مشحون باللعب والتعب، ظللتُ أكتشفها وأحتوي تفاصيلها، أتحسَّس نبضها، أنفاسها، تقلُّبَهَا، أوضاعها التي تستقر عليها في نوم عميق، كلُّ هذا يخبرني بما لا يعرفه أحد عنها، حتى هي.

مضى خمسةُ أشهر ولم يشاركها إياي أحد، عرفتُ بعد ذلك - في مكالمة لها مع صديقتها الوحيدة لمياء- أنها ترمَّلت العام الماضي، ثم عرفتُ أنها لا تنوي إدخالَ أحدٍ في حياتها أبدًا! هذا جديد عليَّ! عرفتُ في حياتي شخصًا وحيدًا أو اثنين، لكن لم أعرف من قبلُ شخصًا اختار وحدته طواعية، شيء ما حينها أشعرني بالأبوة تجاه ياسمين الجميلة، ياسمين ذات الجسد الأشهى والنَفَس المعطر بالأنوثة، تختار أن تعيش وحيدة؛ سأكون رفيقها إذن، حارسَ أحلامها ومنامها.

لم تمهلني فرصةً لأكون أبًا لها؛ حين امتطت وسادتها عاريةً وراحت تحرك خصرها كموجةٍ بحر هادئ، وتتأوَّه كقطة شبقة، تصبَّب النحاس عرقًا.

عامٌ ونصفٌ مضت، بكت فيها ياسمين سبعًا وأربعين مرة، وسَكِرَتْ ثلاثًا وخمسين مرة، انتشت قرابة خمسمائة وثلاث مرات، ضحكت وحدها بلا سبب - أو ربما بسبب - سبع عشرة مرة، عام ونصف بلا زائر أو صديق، ليس إلا سبعُ مكالمات مع لمياء!

وعرفتُ أخيرًا أن لها هوايةً حين ألجأها الاكتئاب إلى العيش شهرين كاملينِ فوقي، تحب الرسمَ بالزيت ورسم الديجيتال، منظمة جدًّا هي، وحين تأكل.. كأنها بارونة.

النحاسُ لا علاقة له بالماء.. إلا حين ضحكت ياسمين. ولم يعرف الظمأ قَطُّ.. إلا لتلك الضحكة.

اليوم وجَّهَت لي ياسمين كلمةً. كانت قد شاركت في مسابقةٍ لرسم الديجيتال وفازت لوحتها، هذه المرة الأولى من مرتين اثنتين رأيت وجهها ينضح بالفرح، فزَّت من مكانها فوقي حين وصل إليها بريد إلكتروني يخبرها بفوزها، قفزت فوقي كطفلة في الثالثة لا تعرف التعب، ضحكت كما لم تضحك من قبل أو من بعد، تشقلبت فوقي بلا اكتراث لألم الظهر وقَرصة الدورة الشهرية، في آخر قفزة تنبَّهَتْ أنها ربما تكسرني، لكني قديمٌ وصُلب، هي فقط لا تعرف ذلك، وحين نزلت عني نظرت إليَّ قائلةً "إنت سرير جدع على فكرة.. حبيتك".

النحاسُ طيِّعٌ عن خبرةٍ وسياسة، يتأثر سريعًا بالحرارة، الدفء المستمر يُلينُه، يزيده طوعًا، لسعةُ الحبِّ تكاد تُذيبه.

قويٌّ أنا.. وذائب.

حبيبتي تبلغ الأربعين اليومَ، كأنَّها تصغُر كلما كبرت! لكننا لا نحتفلُ هذا العامَ أيضًا.

اليوم أبلغ السابعة والتسعين، وكل ما أذكره عن حياتي أني كنت معروضًا للبيع، وجاءت ياسمين.

لم أستطع الحفاظ على عهدي معها حين سمعتُها تنادي اسمًا في منامها "سمير.. سمير..."؛ استعملتُ قدرتي الوحيدة لأوقف هذا الوجع بداخلي بعد سماع اسمٍ تناجيه في منامها كأنها تضاجعه. استعملت قدرتي على الإيقاظ! أنا أيضًا أوقظ مَن فوقي كما أستطيع أخذه في نوم عميق وجميل. مَن سمير هذا على أي حال؟! زوجها المتوفَّى من ستة عشر عامًا ربما؟ وإن كان! فلتذكُرْهُ بعيدًا عني.

هذا الشتاء كان قاسيًا على كلينا، لذا - ربما شعرت بي - نقلت ياسمين حياتها بالكامل إلى غرفة النوم لأول مرة بشكل دائم، ولولا رائحة الزيت لقلت إني انتقلت إلى الجنَّة، لكن كيف أنتقل إلى مكان وأنا المكان؟ أنا الغرفة بالكامل، لا الجدران ولا الستائر تعني شيئًا إن لم أكن أنا. وحبيبتي ترسمني الآن! ترسم جسدها الخمسينيَّ فوقي عاريًا كفاكهة للعالَم تُعرض في فاترينة ولا يلمسها سواي، لا يشمُّ بوحَ مسامها ولا ينعم بمنحنياتها - التي زادت فجاجةً بعدما زاد وزنها - سوى معدِني الصلب. تُنهي اللوحة كالآتي: المنظور من الأعلى يجعلني أشبه بئرًا مستطيلة، أعمدتي الأربعة العالية تجعل ياسمين فوقي نائمةً في قاع سحيق، تنظر إلى الأعلى تمامًا إلى عينَيْ الرائي، وكل ما حولها محيطٌ مصغَّرٌ من النبيذ، أمواجه العاتية تتكسر على جسدها كأنها إلَهَةُ البحار النائمة.

بعد أن أنهت اللوحة - الكبيرة نسبيًّا - اتجهت نحوي في وهن، ارتمت فوقي على بطنها وهي تحدث نفسها "إيه فايدة أي حاجة!". ولم تغادر غرفتها بعد ذلك إلا للضرورة القصوى.

أحتفل اليوم بميلادي المائة وسبعة وأربعين أو ستة وأربعين.. لا أذكر تحديدًا، لكن لا يهمُّ.. ما دمتُ عجوزًا قويًّا فلا شيء يهم.

بالأمس عادت ياسمين إلى لوحة غير مكتملة الخلفية، رأيتُني فيها بأعمدتي النحاسية كأنها أبراج عالية، وياسمين صغيرة جدًّا تجلس فوق قمة كل عمود! وياسمين خامسةٌ عملاقةٌ تنامُ تحتي تحملني على بطنها! لا أذكر متى بدأت هذه اللوحة. اقتربت ياسمين منها بيدها قلم رصاص، أخذت تخطط في الخلفية شكل تابوتٍ بأربع أرجلٍ.. وأربعة أعمدة...

صِرتُ أنسى كثيرًا، أذكرُ أشياءَ أعرف أني كنت أذكر تفاصيلها، نسيتُ - مثلًا- كيف التقيتُ ياسمين الصغيرة لأول مرة! أكانت مع أبويها؟ مهلًا.. أينَ الباشا؟ وحريمه ووصيفاتهنَّ؟ أين الخدم الذين يتناوبون على الاهتمام بي وتعطيري؟! ما هذه الرائحة العطنة؟! يا إلهي.. جثة مَن هذه؟!