لابد أن أعترف أني لم أكن على حقٍّ في موضوع الغارمين/ات؛ كنت أتبادل الآراء في هذه القضية مع زملاء وأصدقاء، جميعهم يرفضون مساعدة الغارمين؛ في تلك المرحلة، كنت أعمل مستشارة إعلامية لوزيرة التضامن الاجتماعي، غادة والي، وكان يُعرضُ عليَّ مشكلات كثيرة جدًا سببها تورط الأهالي في تجهيز بناتهم بأكثر من قدرتهم والنتيجة التعثر في سداد الدين والتهديد بالحبس. وكان البعض يلجأ إلى "التضامن" للبحث عن حل، عادة قبل موعد الجلسة أمام القاضي. محاولاتي بشكل مؤسسي أو من خلال حلول فردية غالبا ما كانت تفشل. لم أستوعب حينئذ جيدا أسباب الفشل بل شعرت أحيانا بالخذلان وقبلتُ اعتذار البعض عن المساعدة. هناك من قالوا لي بصراحة: "الناس عارفين أن مصيرهم الحبس ومع ذلك يتداينون ويكتبون إيصالات أمانة!".
وأعترف الآن أني لم أكن على حق، فما خفي في هذه المشكلة أكبر مما ظهر. ومن الضروري التأكد من متلقي الدعم وأنهم الأكثر استحقاقا له، وتلك مسؤولية تُلقى عادة على المتبرع، بينما هي إحدى حلقات مشكلة علاج الفقر، خاصة المتعدد الأبعاد، وهي مهمة السياسات العامة التي تضعها الحكومة؛ هي ليست "حسنة" تُلقى للفقير ولكنها حقه. وهي مهمة معقدة فيما يتعلق بقياس الفقر وتحديد الفقراء. وماتزال الدول النامية ومنها مصر في بداية الطريق لضبط تلك السياسات وجعلها ناجعة حتى تذهب المساعدات والدعم وكل وسائل الحماية والرعاية لمستحقيها.
أذكر ذات مرة لجوئي لوكيل الوزارة، كمال الشريف، رحمه الله. أطلعته على حالة التعثر لسيدة في الستين من عمرها، وعليها دين تجاوز المائة ألف جنيه، بالإضافة لقيمة مماثلة بالإيصالات يستخدمها الدائن عادة لتهديد المدين على الدفع. وعندما قرأنا قائمة تجهيزات العروس المسجلة في المديونية أصابتنا صدمة. طبعا صدمتي مضاعفة نظرا لفرق الخبرة. ضمت القائمة ثلاجة وديب فريزر وبوتاجاز ومايكروييف، وشنطة أدوات مائدة وغسالتين، واحدة أوتوماتيك والأخرى عادية للأطفال، وعدد أربع وعشرين طقم ملايات سرير، وسجاجيد، ونجف، وتكييف ومروحتين، وكاتش ماشين وطقم حلل ستنالستيل.
استغربنا من كل هذه المشتريات، خاصة أن بعض التجهيزات تدخل في باب الرفاهيات. وردت الخالة، التي حضرت نيابة عن الأم "المختفية" هروبًا من ملاحقات الدائن، بأنها أصبحت أساسيات لتفرح "العروسة" مثل بقية البنات، و"تشريفها" أمام أهل العريس.
الأمر يستدعي من المصلحين تغيير العقلية السائدة لدى البعض واهتمامهم بنظرة من حولهم، وهي نظرة طبقية عنصرية الجميع ضحايا لها. ذكرت إحدى الغارمات بأنها إذا ما جهزت ابنتها بأقل من هذه المستلزمات فلن يلتفت إليها أحد من شباب العائلة أو المنطقة. وإذا علمنا بالكمّ الهائل من قضايا الطلاق وما يسودها من خلافات ومعارك حول الجهاز يتضح أن المجتمع في هاوية. إن الاختيار مبني غالبًا على الماديات وليس على سواها، وتنجرُّ العائلات وراء المظاهر، دون مراعاة لاختيار الشريك الأفضل، علما وعملا وأخلاقا، ويكون مصير الأهل السجن، ومع ذلك لا يتراجعون عن الجهاز المرهق ماديا. ربما يكون ذلك أيضًا تحت إلحاح من الأبناء ونزولًا عند رغبتهم؛ لكنْ قد يختفي هؤلاء الأبناء عندما يواجه الآباء السجن؟!
وقد شاهدت مواقف مماثلة، عندما تكون الابنة يتيمة الأب، وتحضر الأم لوزارة التضامن وتطلب المساعدة التي تمنحها عادة لهذه الفئات التي تحتاج للحماية. وتقتضي الإجراءات إحضار عقد الزواج كدليل على الجدية، كما يُشترط إجراء بحث اجتماعي عن الأسرة للاطمئنان لكونها مستحقة للمساعدة. ولا أنسى كلمات إحدى الأمهات، وهي غاضبة من هذا الشرط، قائلة: "أنتم بتذلونا وتجرسونا وسط الناس". نفس هذه الأم كشف البحث الاجتماعي أنها حصلت على أكثر من جهاز لابنتها من خلال الذهاب لعدة جمعيات، وربما باعت بعضها بأبخس الأثمان.
وكنت قد لاحظت تكرار هذا السلوك أيضا من أشخاص يأتون للحصول على مساعدات بدعوى المرض، لم تكن إلا مبررات، لدرجةٍ أن شخصًا تكررت طلباته للحصول على المساعدة وكان قد جلب مرة والده وحمله ليصعد به أربعة أدوار، حتى وصلنا للأستاذ كمال الذي أعطاه ورقة ليكتب عليها طلب المساعدة، على أن يعود مرة أخرى بعد دراسة الحالة. وقبل أن أنصرف، ناداني الأستاذ كمال وأشار من شباكه المطلّ على الشارع، إلى الشخص الذي قد حضر منذ قليل وكان محمولًا على ظهر ابنه، وكيف كان يجري ويرتع بمجرد أن غادر المكان!
وإذا كنتُ أروي هذه القصص فليس بقصد إنكار الظروف شديدة الصعوبة أمام العائلات لتجهيز أبنائهم، حيث ارتفعت بالفعل أسعار كل شيء، وهذا وضع أصبح يعاني منه الميسورون، فما بالنا بضعاف الحال. لكن الهدف هو إعادة النظر في كيفية علاج هذه المشكلة وغيرها من المشكلات التي تخص الفئات الأولى بالرعاية.
ولا يعني وجود محترفي الاحتيال أن جميع المتعثرين من هذه النوعية، بل هناك من يستحقون المساعدة وبشدة، وهؤلاء نبلاء يتعففون ولا يمكن الوصول إليهم بسهولة. وهذه قضية تخص جميع أشكال الدعم التي تحتاج حلولا غير تقليدية من السياسات العامة حتى يحصل الفقراء على حقوقهم التي نص عليها الدستور ولا يتحول الدعم إلى "سبوبة" وهي تحديات ظلت قائمة أمام الحكومات المتعاقبة، وهي على قمة أولويات حكومة مدبولي الجديدة!