في السنوات الأخيرة، شهدت أوروبا ارتفاعًا مقلقًا في كل من التطرف اليميني والتطرف الجهادي، على الرغم من أن هذين الشكلين من الراديكالية يظهران على أنهما في أطراف متعارضة من الطيف الأيديولوجي، إلا أنهما يشتركان في علاقة نفعية مستمرة تزيد من التهديد الذى يمثله كل منهما.
نتعمق في الديناميكيات المعقدة بين التطرف اليميني والتطرف الجهادى في أوروبا، مستعرضين أصولهما ودوافعهما والطرق التي يتغذيان بها على بعضهما البعض.
من خلال فهم هذه العلاقة، يمكننا أن ندرك بشكل أفضل المشهد الأوسع للتطرف والعمل نحو استراتيجيات أكثر فاعلية لمكافحة الإرهاب.
صعود التطرف اليميني في أوروبا
التطرف اليميني في أوروبا ليس ظاهرة جديدة، بل له جذور تاريخية عميقة.
حيث يتم تتبع عودته الحديثة غالبًا إلى عدم الاستقرار الاقتصادي والتغيرات الاجتماعية وقضايا الهجرة.
تاريخيًا، ازدهرت الحركات اليمينية المتطرفة في أوقات الأزمات، مروجة للقومية وكراهية الأجانب والعودة إلى "القيم التقليدية" كحلول للتهديدات المفترضة.
للمزید: من "الضفة الأخرى".. داليا عبدالرحيم تكشف عوامل صعود اليمين المتطرف في أوروبا
في السنوات الأخيرة، تجلّى التطرف اليميني بأشكال مختلفة، بدءًا من الأحزاب السياسية التي تفوز في الانتخابات، انتهاءً بالأعمال العنيفة التي يرتكبها أفراد أو مجموعات صغيرة.
كما لعب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في نشر الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة، مما أتاح للمتطرفين التواصل والتنظيم وتجند أعضاء جدد بشكل أكثر كفاءة.
صعود التطرف الجهادي في أوروبا
يتم دفع التطرف الجهادى في أوروبا بشكل رئيسي من خلال تفسيرات راديكالية للإسلام، غالبًا بتأثير منظمات إرهابية عالمية مثل القاعدة وداعش.
كما تساهم عوامل مثل عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط والسياسات الخارجية الغربية والتهميش الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المسلمة في أوروبا في صعود التطرف الجهادي.
استخدم المتطرفون الجهاديون في أوروبا تكتيكات متنوعة، بما في ذلك الهجمات الإرهابية البارزة، وتجنيد المقاتلين الأجانب، ونشر الدعاية من خلال المنصات الإلكترونية، حيث تهدف هذه الأعمال إلى بث الخوف، وزعزعة استقرار المجتمعات، وجذب أتباع جدد لقضيتهم.
جدلية العلاقة
على الرغم من اختلافاتهم الأيديولوجية، فإن المتطرفين اليمينيين والجهاديين يشتركون في علاقة تكافلية، فكل مجموعة تستخدم تصرفات الأخرى لتبرير خطابها وتجنيد أعضاء جدد.
وغالبًا ما يشير المتطرفون اليمينيون إلى الهجمات الجهادية كدليل على مخاطر التعددية الثقافية والهجرة.
بينما تستخدم الجماعات الجهادية صعود الحركات اليمينية المتطرفة لتأكيد روايتها عن العداء الغربي تجاه المسلمين.
التعزيز المتبادل
يخلق هذا التعزيز المتبادل دورة تطرفية. على سبيل المثال، قد يؤدى هجوم جهادى إلى زيادة في المشاعر والأعمال المعادية للمسلمين من قبل المتطرفين اليمينيين.
مما يؤدى بدوره إلى زيادة تهميش المجتمعات المسلمة ودفع المزيد من الأفراد نحو الأيديولوجيات الجهادية.
وتساهم هذه الدورة في نمو كلا الشكلين من التطرف، مما يجعل من الصعب معالجة أحدهما دون النظر إلى الآخر.
وللتدليل على هذه العلاقة التكافلية يمكن الرجوع لهجمات أوسلو التي ارتكبها اليميني أندرس بهرنغ بريفيك عام ٢٠١١، والهجوم على صحيفة شارلي إبدو، في ٧ يناير ٢٠١٥، وهجمات باريس في ١٣ نوفمبر ٢٠١٥.
تعتبر هجمات أوسلو مثالًا صارخًا على هذه العلاقة، حيث تضمن بيان بريفيك رغبته في محاربة ما كان يعتبره أسلمة أوروبا.
وكانت أفعاله مدفوعة جزئيًا بالهجمات الجهادية والخوف من النفوذ الإسلامي في المجتمعات الأوروبية.
كما كان لهجمات شارلي إبدو وهجمات باريس، التي نفذها متطرفون جهاديون، تأثير كبير.
حيث إنها لم تؤدى إلى زيادة المشاعر المعادية للمسلمين فحسب، بل أدت أيضًا إلى تصاعد الخطاب والنشاطات السياسية اليمينية المتطرفة في فرنسا وخارجها.
حيث قال منفذو تفجيرات الصحفية في نهاية الفيديو الذى نشروه لعمليتهم: "لقد ثأرنا لنبينا" بسبب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنبي الإسلام محمد.
بالإضافة إلى أن هذه الهجمات كان لها ردود فعل رسمية وشعبية غاضبة ضد المسلمين عمومًا.
وأحدثت حالة من الانقسامات المجتمعية التي أدت بدورها إلى ترسيخ مواقف كل من المتطرفين الجهاديين واليمينيين.
استقطاب المجتمعات
يساهم التفاعل بين التطرف اليميني والتطرف الجهادى في استقطاب المجتمعات، ويظهر هذا الاستقطاب في الفجوة المتزايدة بين المجموعات العرقية والدينية والسياسية المختلفة.
وغالبًا ما يستغل المتطرفون اليمينيون هذا الانقسام لتحقيق مكاسب سياسية، بينما تستفيد الجماعات الجهادية من التهميش الناتج لتجنيد الأفراد المستائين.
استجابت الحكومات في جميع أنحاء أوروبا للتهديدات المزدوجة للتطرف اليميني والتطرف الجهادى بسياسات وإجراءات تشريعية متنوعة.
تشمل زيادة المراقبة، وتشديد ضوابط الهجرة، وتعزيز جهود مكافحة الإرهاب، ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات قد تخاطر أحيانًا بانتهاك الحريات المدنية وقد تساهم بشكل غير مقصود في تعزيز سرديات كلا المجموعتين المتطرفتين.
بالإضافة إلى أن التغطية الإعلامية تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل التصورات العامة حول التطرف اليميني والتطرف الجهادي، بالشكل الذى يمكن أن يؤدى تضخيم التهديد بالتركيز على حجمه وعدد الضحايا.
وبالتالي إثارة المزيد من المخاوف والمساهمة في دورة التطرف، وكلا المجموعتين المتطرفتين ماهرتان في استخدام وسائل الإعلام لنشر رسائلها وتجنيد أعضاء جدد.
ولمواجهة تأثير دعاية المتطرفين، يجب على وسائل الإعلام الترويج لتقارير متوازنة وتضخيم الأصوات التي تتحدى الأيديولوجيات المتطرفة.
حيث يمكن أن يساعد تسليط الضوء على قصص الصمود والاندماج والتعاون بين المجتمعات المختلفة في تقويض السرديات التي يروج لها المتطرفون اليمينيون والجهاديون.
سياسات حكومية ومبادرات اجتماعية
الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني تعد ضرورة من ضرورات المواجهة للتطرفين اليميني والجهادى على حد سواء، حيث تلعب الحركات الشعبية والمبادرات المجتمعية دورًا حيويًا في مكافحة التطرف.
من خلال تعزيز الحوار والفهم والتعاون بين المجموعات المتنوعة، ويمكن لهذه المبادرات تقليل جاذبية الأيديولوجيات المتطرفة.
وغالبًا ما يكون القادة والمنظمات المجتمعية في طليعة الجهود الرامية إلى منع التطرف ودعم الأفراد الذين هم عرضة للتأثر بالتأثيرات المتطرفة.
كما تصبح البرامج التعليمية التي تعزز التفكير النقدي ومحو الأمية الإعلامية والفهم بين الثقافات ضرورية لمعالجة الأسباب الجذرية للتطرف.
ويمكن للمدارس والجامعات والمراكز المجتمعية توفير منصات لمناقشات حول التسامح والتنوع ومخاطر التطرف.
وعلى الجانب الحكومي يجب أن تتبنى استراتيجيات الحكومة الفاعلة نهجًا شاملًا لمكافحة الإرهاب، لا يقتصر فقد على التدابير القانونية.
ولكن أيضًا المبادرات التي تعالج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وتعزز التماسك الاجتماعي، وتدعم مرونة المجتمع، كما يجب تصميم السياسات لمنع التطرف من جذوره وتعطيل المسارات المؤدية إليه.
ونظرًا للطبيعة العابرة للحدود للتطرفين اليميني والجهادي، فإن التعاون الدولي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن أن يعزز تبادل المعلومات والممارسات الجيدة والموارد من فاعلية جهود مكافحة الإرهاب.
كما يمكن أن تساعد المبادرات التعاونية بين الدول الأوروبية ومع الشركاء العالميين في معالجة الأسباب الجذرية وتجليات التطرف.
مستقبل التطرف في أوروبا
يتطور مشهد التطرف باستمرار، مع ظهور تهديدات وتحديات جديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، الذى يعد سلاحًا ذا حدين، فكما يمكن من خلاله رصد التطرف العنيف عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ومحاولة حظرها أو حذف هذا المحتوى المتطرف، فهو من ناحية أخرى فرصة سانحة للتنظيمات المتطرفة لنشر أيديولوجيتها بشكل أوسع نطاقًا.
وتجنيد عناصر جديدة عن بعد، واستخدامهم في تنفيذ عمليات عنيفة، ومساعدتهم من الإفلات من العقاب أو الملاحقة الأمنية.
ومن المرجح أن كلا المجموعتين اليمينية والجهادية سوف تسعى لاستغلال واستثمار هذه التقنيات لنشر أيديولوجياتها، بالإضافة لتغيير تكتيكاتهما واستراتيجياتهما استجابةً للبيئات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية المتغيرة.
وهو الأمر الذى يتطلب التحلي باليقظة الحكومية والمجتمعية والقدرة على التكيف لمعالجة هذه التهديدات المتطورة.
ختامًا، فإن الطريقة الأكثر فاعلية لمكافحة التطرفين اليميني والجهادى في أوروبا هي بناء مجتمعات مرنة يمكنها الصمود والتعافي من الهجمات المتطرفة.
يتضمن ذلك تعزيز التماسك الاجتماعي، والترويج لسياسات شاملة، وضمان أن جميع المجتمعات تشعر بقيمتها دون انتقاص أو تهميش وحمايتها دون تهديد أو انتهاك.
على سبيل المثال ينبغي على الحكومات الأوروبية مساعدة الجاليات المسلمة على الاندماج داخل بيئاتها، واحترام معتقداتهم ومقدساتهم، ومعاملتهم كمواطنين أوروبيين كاملي الأهلية والحقوق.
وتطبيق القانون وسيادته على الجميع دون تمييز بين أصل أو عرق أو لون أو دين أو جنس، ومن خلال هذه المعالجات للقضايا الأساسية التي تغذى التطرف، يمكن لأوروبا أن تخلق مستقبلًا أكثر أمانًا وانسجامًا.
المواجهة
تؤكد العلاقة الجدلية بين التطرف اليميني والتطرف الجهادى في أوروبا على تعقيد التهديد الذى يمثله كلا الشكلين من الراديكالية.
فعلى الرغم من أنهما يظهران كأضداد أيديولوجية، فإن تعزيزهما المتبادل ودورة التطرف الناتجة عنهما يزيدان من المخاطر التي يمثلها كل منهما.
ويتطلب معالجة هذه العلاقة التكافلية بين اليمينيين والجهاديين اتباع نهج شامل متعدد الجوانب يتضمن الحكومات والمجتمعات والأفراد الذين يعملون معًا.
من خلال تعزيز الفهم والمرونة والتعاون، يمكن لأوروبا مواجهة التهديدات المزدوجة للتطرف اليميني والتطرف الجهادى وبناء مجتمع أكثر وحدة وسلامًا.