عيّن البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية المونسيور دكتور يوأنس لحظي جيد، بأمانة سر الفاتيكان «رئاسة الوزراء»، بقسم الشئون العامة، بجانب مهامه كممثل للكرسي الرسولي«الفاتيكان» باللجنة العليا للأخوة الإنسانية، مع نيافة الكاردينال ميجيل أنخيل أيوسو غيشوت، عميد دائرة الحوار بين الأديان. وكان المونسنيور يوأنس جيد التحق بالسلك الدبلوماسي الفاتيكاني عام 2007، بعد حصوله على الدكتوراه في القانون الكنسي بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وعُين في عهد البابا بنديكتوس الـ16 سكرتيرا لسفارات الفاتيكان بالكونجو والجابون والأردن والعراق. ثم قام في سنة 2012 بتأسيس قسم اللغة العربية بالفاتيكان وحصل في سنة 2014 على رتبة مستشار دبلوماسي، أثناء عمله كسكرتير شخصي لقداسة البابا فرنسيس، والذي استمر لأكثر من 6 سنوات، وهو أول مصري وعربي وشرقي يشغل هذا المنصب في تاريخ الفاتيكان. تعكس الخدمة الدبلوماسية اتساع وعالمية الكنيسة الكاثوليكية والتي تمتد إلى أقاصي الأرض فللفاتيكان علاقات دبلوماسية مع أغلب بلدان العالم وحضور يتخطى اللغات والحدود والثقافات.
وقد بزغ نجم المونيسور الدكتور يؤانس بالخدمة في دولة الكونغو والجابون والعراق والأردن والهند وكذلك أثناء عمله لأكثر من ثمان سنوات بأمانة دولة حاضرة الفاتيكان، وهي خبرة فريدة في خدمة الكنيسة الأم والكنائس المحلية؛ لأن ممثل قداسة البابا يعمل على مجالين، الأول: في تمثيل الفاتيكان لدى الدول والحكومات والهيئات والمؤسسات الدولة، والثاني: لخدمة الكنائس المحلية في الدول التي يخدم بها.
وفي هذا الحوار نحاول الاقتراب أكثر من شخصية الأب يؤانس الفريدة التى صارت علمًا وفخرًا لكل للمصريين.
■ في البداية نريد أن نسأل كيف أثرت النشأة في تكوينك؟ وما أهم المؤثرات؟
الأسرة هي المكان الأهم في حياة كل إنسان وهي المدرسة الأولى والأكثر تأثيرًا في تكوين الشخصية والتوجهات والقناعات. وأنا مَدِين لأسرتي بكل شيء، مدين لأبي الغالي بفضيلة الصمت والعمل والتغاضي عن التفاهات، كان، رحمه الله، مثالا للاجتهاد والتحمل والعطاء والمسامحة، ومدين لأمي الحبيبة، حفظها الله لنا، بروح المثابرة والاجتهاد الجاد والعزيمة التي لا تلين أو تضعف مهما كانت الصعوبات، ومدين لإخوتي بالكرم والكرامة والعطاء بدون مقابل. كان ولا زال لأسرتي الأثر الأكبر في حياتي، فمن والدي تعلمت قيم الإيمان والأخلاق والصلاة وأعتبر إخوتي أكبر كنز ونعمة في حياتي. في هذه التربة الطيبة والصالحة نشأت ونمت بذرة دعوتي الكهنوتية.
■ أشخاص وكتب ومواقف لا يمكن أن تنساها؟
عدد الأشخاص والكتب كبير جدا ولا يسعني ذكر الجميع كما لا يمكني أن أنسى، على سبيل المثال، القمص مكسيموس كابس، الذي في مدرسته تعلمت مبادئ الإيمان وبفضل مثاله الصالح اخترت طريق الكهنوت والخدمة والشهادة للحق بوضوح ومحبة. كذلك نيافة البطريرك أسطفانوس الثاني والأنبا أندراوس سلامة، والأب بولس جرس، والعديد من المكرسين الذي أصلي لهم يوميا وأشكر الله على أنه وضعهم في طريقي لأتعلم منهم وأقتدي بمثلهم. وأكثر الكتب التي أثرت في حياتي هي كتب الفلسفة والقانون لأنها علمتني المنطق والتحليل وعدم الخوف من السؤال وعدم الهروب من الشك والتساؤل والبحث والتعمق.
■ كيف بدأت علاقتك بالبابا فرنسيس؟ وكيف تطورت هذه العلاقة؟ ولماذا اختارك سكرتيرا له؟
-التحقت بالخدمة في السلك الدبلوماسي الفاتيكاني عام ٢٠٠٧ في عهد قداسة البابا بيندكتوس الـ١٦ وبعد الخدمة بسفارات الفاتيكان في الكونجو والجابون ثم في الأردن والعراق. ثم تم استدعائي في الفاتيكان وطُلب مني تأسيس قسم اللغة العربية، وفي سنة ٢٠١٣ تم اختيار قداسة البابا فرنسيس للجلوس على كرسي القديس بطرس، ولكوني المسئول عن الترجمة كنت أصطحب الوفود القادمة من الدول العربية للقاء البابا وهذا سمح لي بالعمل عن قرب مع قداسته. وفي سنة ٢٠١٤ فوجئت بطلب قداسة البابا وباختياري للخدمة بجواره كسكرتير شخصي. هذا الشرف وهذه البركة الكبيرة استمرّت حتى ٢٠٢٠ ومستمرة حتى الآن ولو بشكل مختلف. يعكس اختيار قداسة البابا فرنسيس لأحد أبناء الشرق الأوسط لهذه الخدمة اهتمامه بهذه المنطقة وبالحوار المسيحي الإسلامي وبالحوار المسكوني.
■ ما الدور الذي تقوم به حاليا في أمانة سر الفاتيكان؟
في الواقع لم تتوقف أبدا خدمتي بالفاتيكان فبعد ترك منصب السكرتير الخاص لقداسة البابا طُلب مني تمثيل الكرسي الرسولي (الفاتيكان) في اللجنة العليّا للأخوة الإنسانية ونشر مبادئ وثيقة الاخوة الإنسانية والتي تشرفت بالعمل على إعدادها وتوقيعها من قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ مشيخة الأزهر في مدينة أبو ظبي في ٤ فبراير ٢٠١٩، ولذا قمت بتأسيس جمعية “البامبينو جيزو” الإيطالية ومؤسسة الأخوة الإنسانية المصرية لتحويل مبدأ الأخوة الإنسانية لأعمال خير ملموسة تُقدم للجميع بدون تفرقة أو تمييز. والتعيين الجديد في أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان، بقسم الشئون العامة، هو تشريف كبير وتأكيد لثقة قداسة البابا والرؤساء والمسئولين وكذلك لرغبتهم الدائمة في وجود أشخاص من الشرق الأوسط لتأكيد الطابع العالمي للكنيسة الكاثوليكية. وأتمنى أن تسمح لي الخدمة الجديدة بتنمية ما تم إنجازه في السنوات الماضية وبالتعلم أكثر في مدرسة الكنيسة الكاثوليكية وبخدمة منطقة الشرق الأوسط وبنشر ثقافة الحوار والأخوة الانسانية.
■ هل وجودك في هذا المنصب يساعد على تحقيق أهداف وثيقة الإخوة الإنسانية التي عرفت بكونك مهندسها؟
تشرفت بالعمل في إعداد وثيقة الإخوة الانسانية ومنذ تاريخ توقيعها وأنا أجتهد مع كافة الأشخاص الجهات الداعمة للوثيقة في جعلها حقيقة ملموسة وبالتأكيد سأستمر في هذه المهمة لاسيما وأننا نعمل منذ سنة ٢٠١٩ على عدد من المبادرات والمشاريع الخيرية والقومية، على سبيل المثال، دار واحة الرحمة لرعاية الأطفال الأيتام والمحرومين من الرعاية الأسرية، وهو مشروع كبير تم الشروع فيه سنة ٢٠٢٠ وتم افتتاحه في شهر مايو من هذا العام، بدعم كريم من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن جمهورية إيطاليا ومن قداسة البابا فرنسيس الذي تكرم وأهدى لهذا المشروع نسخة طبق الأصل من تمثال الرحمة للفنان العالمي مايكل أنجلو، وبالطبع بدعم وتشجيع الدولة المصرية بكافة فئاتها وهيئتها ومؤسساتها. قمنا كذلك بافتتاح الفرع الأول من مشروع سلسلة مطاعم الإخوة الإنسانية لتقديم الطعام بالمجان للأسر الأولى بالرعاية بطريقة تحفظ كرامتهم وعن طريق كروت مسبقة الشحن لتفعيل مبدأ التضامن الاجتماعي وإتاحة الفرصة للقادر على مساعدة غير القادر. كما نقوم بعمل قوافل طبية لتقديم الرعاية الصحية بالمجان لآلاف الأطفال والأسر المحتاجة في كل أنحاء البلاد وبالتعاون مع وزارة التضامن ووزارة الصحة وكبرى المنظمات العاملة في هذا المجال، كمؤسسة راعي مصر ومؤسسة فاهم للدعم النفسي ومؤسسة ديهات وغيرهم. كما نعمل على تنفيذ مشروع مستشفى البامبينو جيزو للطفولة والأمومة بالتعاون مع مستشفى البامبينو جيزو التابعة للفاتيكان ومع مؤسسة الرئاسة المصرية والعديد من الهيئات والمؤسسات المحلية والدولية.
■ ما المدة الباقية لافتتاح مستشفى الأطفال بالعاصمة الإدارية؟
بعد أن تكرم فخامة رئيس مصر عبدالفتاح السيسي بتخصيص أرض المستشفى بالمدينة الطبية بالعاصمة الإدارية الجديدة ونحن نعمل على الانتهاء من دراسات الجدوى والرسومات الهندسية والتصريحات اللازمة للشروع فى أقرب وقت في أعمال الحفر والتشييد. وقد تطلبت هذه الإجراءات كل هذا الوقت نظرا لضخامة المشروع وأهميته سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي او الدولي.
■ هل تنوي كتابة سيرتك الذاتية لتستفيد الأجيال من تجربتك المميزة؟
لا أستطيع أمام كل هذه الخبرات سوى شكر الله الذي وضع في طريقي أناسا كرماء، شجعوني وعلموني بكل محبة وتفان وسخاء، فالفضل الأول هو لله ولأسرتي وللآباء المسئولين الذين سمحوا لي بالدراسة بالخارج والتخصص في القانون الكنسي والالتحاق بالأكاديمية الدبلوماسية، وبالطبع لقداسة البابا فرنسيس الذي احتضنني كـ «ابن» وسمح لي بالتعلم في مدرسة تواضعه وتكريسه، وشرفني بتنفيذ بعض المهام التي كانت تبدو مستحيلة ولكن بفضل الله وثقة قداسته تم إنجازها. وفي الحقيقة أشعر دائما بالتقصير لأننا مهما عملنا أو قدمنا فهذا واجبنا ورد للجميل وعرفان لكرم الله علينا وثقة رؤسائنا الكريمة.
■ هل يمكن أن يأتي يوم ونرى بابا للفاتيكان من أصل مصري عربي شرقي أم أنه حلم بعيد المنال؟
من المستحيل قراءة المستقبل لأنه بيد الله، ولكن غير المستطاع عند الناس هو مستطاع عند الله. ودعونا نتذكر دائما أن الله هو الذي يقود التاريخ وهو الذي يكتب بطريقة مستقيمة على خطوط وأسطر التاريخ المتعرجة. وهو الذي يرسم أجمل اللوحات بأبسط وأفقر الألوان، كي لا يفتخر أحد بأن الفضل يعود له. وهنا نؤكد على أن الوظيفة في الكنيسة يطلق عليه خدمة لأنها تكليف من المسئولين نتشرف بالقيام به لخدمة الناس والخبر السار وبالتالي كلما ارتفعت الوظيفة زادت المسئولية أمام الله والناس والضمير.