باتت الحرب بين حزب الله ودول الاحتلال الإسرائيلي، مسألة وقت، استنادا التزام حزب الله باستراتيجية «وحدة الساحات»، التي تخدم نفوذ إيران السياسي ومصالحها الاقتصادية لدى القوى الدولية والإقليمية، وتعنى أن تعرض طهران أو أحد أذرعها العسكرية بالمنطقة لحرب، يفرض مشاركة باقي الأذرع، وكلما تصاعدت الحرب، صعدت الساحات مشاركتها، حتى تتوقف، لكن حزب الله لا يريدها حربا شاملة، لأنها اختيارا مفروضا، لمساندة «حماس» في غزة، لإدراكه أنه سيكون الهدف التالي للكيان «انما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
كما أن الكيان لا يرغب أيضا في حرب شاملة، لكنه يستهدف الردع لعله ينجح في فصم الرابطة العضوية بين الساحات، بيانات وزارة دفاع الكيان أكدت أنّ 930 منزلاً ومبنى في 86 بلدة شمال البلاد تعرضوا لأضرار منذ اندلاع المواجهة مع حزب الله، ورئيس الوزراء شكا من أن حكومته لا يمكنها تحمل 100 ألف نازح غادروا المستوطنات الشمالية، فقد تم اعتماد «1.64 مليار دولار» لعمليات الإجلاء وتوفير مناطق نزوح مؤقتة حتى يوليو عام 2024، لكن مصيرهم بعدها مجهولا لقصور الاعتمادات.
بينما هناك انقسام داخل الكيان بشأن الإدارة السياسية لأزمة التصعيد مع حزب الله، الجيش أقر خطة عملية عسكرية موسعة إذا اقتضت الضرورة، و«عاموس هارئيل» المحلل العسكري بصحيفة «هآرتس» كشف عن رغبة قيادتي الجيش والأمن العام «الشاباك» إنهاء عملية رفح.. «يوآف جالانت» وزير الدفاع و«هرتسي هاليفي» رئيس الأركان يرغبان فى التوصل لصفقة رهائن مع حماس، للتهدئة وإعطاء القوات فترة راحة استعدادا للشمال، و«جالانت» سارع برفض مبادرة «ماكرون» التي أعلنها خلال قمة مجموعة السبع بأن بلاده والولايات المتحدة والكيان يعملون ضمن إطار «ثلاثي» لتنفيذ خارطة طريق فرنسية، لاحتواء التوتر بين الكيان ولبنان، لكن رئيس الوزراء أكد تصميمه على استمرار حرب غزة، معاتبا بأن «الكيان دولة لها جيش، وليس جيش تتبعه دولة»، والخارجية وصفت تصريحات «جالانت» بأنها «متسرعة وغير صائبة».. كل الشواهد تؤكد أن صدام قادة دولة الكيان صار حتميا.
وبحسب جمال طه الباحث في شئون الأمن القومي، أكد أن التحليل السابق مبنى على ظاهر الأمور، لكن الأزمة في الحقيقة أعقد من ذلك، فلبنان هي الساحة القادمة للاستقطاب الدولي والصراع الإقليمي؛ القطب الأول يشكله أصحاب مشروع الممر الاقتصادي «أمريكا، إسرائيل، الهند، الإمارات، والمملكة»، في مواجهة القطب الثاني روسيا والصين وإيران وأذرعها العسكرية «حزب الله، حماس، الجهاد، الحوثيين، التنظيمات الشيعية بالعراق وسوريا».. عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023، بررت للكيان بدء خطة التهجير المؤجلة، أو الخراب كبديل يفرض الهجرة الطوعية أو الموت.. حزب الله شارك بالتصعيد للردع، ففتح الباب أمام استكمال خطة «الفوضى الخلاقة» لتشمل لبنان بعد العراق وسوريا، بدعوى تقليم أذرع إيران العسكرية بالمنطقة، وإيجاد المبرر لتقويض قدراتها النووية، لكن تمرير هذا المخطط يواجه عقبة توازن القوى على نحو يحول الحرب الى تدمير متبادل، قد تطول نيرانه دول المنطقة.
في حين تورطت الهند لأنها تتطلع لأن تكون مصدرا لسلاسل الإمداد العالمية بدلا من الصين، «أجيت دوفال» مستشار الأمن القومي زار الكيان في مارس 2024 التقى رئيس الوزراء الذي أعرب عن رغبته في استضافة زيارة تضامنية أكبر!! صحيفة «يديعوت أحرونوت» كشفت تزويد الهند للكيان منذ بداية الحرب، بقذائف مدفعية وأسلحة خفيفة و20 طائرة مسيرة «هرمز900» بالغة التطور، أنتجها مصنع حيدر أباد الذي تم تشييده بالمشاركة مع الكيان، والسلطات الإسبانية في شهر مايو منعت السفينة «ماريان دانيكا» من الرسو بميناء قرطاجنة في طريقها للكيان، وعلى متنها 27 طنا من الذخائر الهندية لصالح جيش الكيان.
في حين سمحت إيران والحوثيين، لروسيا والصين المستهدفين من إغلاق باب المندب بالمرور والوصول لقناة السويس، ما دفع القطب الغربي لمحاولة إغلاقها من ناحية البحر المتوسط أيضا، قاذفات التايفون الاستراتيجية البريطانية كانت تنطلق على مدى أسابيع من القواعد التابعة للسيادة البريطانية في قبرص «أكروتيري ودكليا» -التي تخدم حلف «ناتو» أيضا- لتنفيذ ضربات ضد منصات إطلاق الصواريخ والمسيرات وقواعد القيادة والتوجيه الخاصة بالحوثيين في اليمن، التقارير أفادت بوقوع عشرات القتلى بينهم خبراء من إيران وحزب الله اللبناني، ما يفسر تهديد حسن نصر الله لقبرص بجعلها «جزءاً من الحرب» حال فتح مطاراتها وقواعدها أمام إسرائيل للهجوم على لبنان.
وفد المخابرات القبرصية سارع بزيارة بيروت، لدفع اتهامات الحزب، ووزير خارجية اليونان أكد أن الاتحاد الأوروبي يقف مع نيقوسيا ضد هذه التهديدات.. الكيان اعترف بمخاوفه من أن التعرض لتكتيك الرخات الكثيفة من قبل حزب الله الذي يمتلك 130-150 ألف صاروخ، حال اندلاع الحرب، قد يؤدي الى انهيار منظومة القبة الحديدية، فلوحت واشنطن بأنه رغم التوترات مع نتنياهو فإن دَعْمه في أي حرب ضد «حزب الله» أمرا محسوما، وشبكة CNN أكدت أن الولايات المتحدة قدمت ضمانات لإسرائيل بالوقوف إلى جانبها حال اندلاع حربًا شاملة مع حزب الله. حاملة الطائرات «دوايت أيزنهاور» غادرت البحر الأحمر في طريقها لشرق المتوسط دعمًا لإسرائيل وقبرص ضد حزب الله، في تكرار لسيناريو إغلاق الحشد العسكري الأمريكي البريطاني لباب المندب بذريعة حرب الحوثيين، لكن مسرح العمليات شرق المتوسط والذريعة حرب حزب الله، لكن النتيجة واحدة وهي «إغلاق كامل لقناة السويس».
وأكد الخبير الاستراتيجي أن المنطقة مقبلة على سنوات جديدة من الخراب، وإعادة ترتيب المصالح الغربية على حساب العرب، بسبب تفرقهم وانقسامهم، البيان الصادر عن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا فى 6 يونيو، ذكرى نجاح إنزال الحلفاء على شواطئ النورماندي الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، أكد توحيد الجهود لخفض التوتر على الجبهة اللبنانية/الإسرائيلية تجنبا لتصعيد إقليمي جديد، وفوضى قد لا يمكن احتوائها، لكن تلك مجرد تصريحات دبلوماسية لتوفير الغطاء الإعلامي للعدوان وتقويض الغضب الشعبي هناك.. وهو ما أكده العميد احتياط «إيفي إيتام» بكشفه «أن الحرب ستستمر ثلاث سنوات: سنة في غزة، وسنة في لبنان، وفي نهاية المطاف سنة ثالثة لتشكيل كل ما يتعلق بإيران، ما يعنى أن المنطقة لن تشهد استقرارا، بل تصاعدا لموجات العنف خلال السنوات القادمة، وتهيئة المناخ للمشروعات البديلة للقناة.
ما أن التطرف السياسي المغلف بالدين يحكم الكيان، ويستهدف سرعة الوصول بحدود الدولة العبرية الى نهر الليطاني، يدعمه رأى عام يميل إلى التطرف، فنسبة مؤيدي الحرب بلغت 62% وتتصاعد يوما بعد يوم، رغم تحذيرات قادة الجيش المتقاعدين من أنها قد تدمر جنوب لبنان، لكنها لن تحقق النصر للكيان.. الدعوة الى «حرق لبنان» صارت شعارا، بأسلحة غربية، وقوات ردع أمريكية بريطانية، لمنع تدخل أي قوة إقليمية، متجاهلين أن حزب الله وحده -بدون خطوط الدعم البرية والجوية المفتوحة- قد أثبت قدرته على تدمير مقرات للقيادة والسيطرة، ومراكز للمراقبة والتنصت اللاسلكي، وقواعد للقبة الحديدية، وأسقط مسيرات هيرمز900 المتطورة، واخترق بمسيرات المهاجر 6 «الهدهد» عناصر بنك الأهداف الاستراتيجية والحيوية في عمق الكيان «مصانع البتروكيماويات ومستودعات النفط ومحطات الطاقة وميناء حيفا»، ما يعكس قدرته على الردع، وإيقاع خسائر جسيمة في جيش أنهكته معارك غزة.
ربط حزب الله حربه بحرب غزة، وتباعد فرصة التسوية السياسية لأزمة الأخيرة، يعنى أن الحرب مستمرة دون سقف زمني.. مقارنة تداعيات حرب يوليو 2006 بنظيرتها القادمة لا موضع له، لأن استثمار إيران في الأقليات بالمنطقة لم يكن قد آتي ثماره؛ ففيلق القدس وتشكيلات حزب الله لم تكن قد دخلت سوريا، ولم تكن هناك قوات للحشد الشعبي بالعراق، ولا حوثيين في اليمن، ولا حماس بقدراتها الراهنة في غزة.. الحرب كبدت لبنان 10 مليارات دولار من تدمير مبان وخدمات، واحراق أراضي زراعية، وتوقف الاستثمارات، وتهدد بإغراقه في الفوضى، وسقوطه رسميا في قبضة حزب الله وإيران.. موجات هجرة اللبنانيين بدأت بالفعل، ونال مطار القاهرة نصيبه منها كالعادة، رغم توصيفهم كسائحين، ليزداد وحش المهاجرين ضراوة.
كما أن التشكيك في قدرة الكيان على الحرب في جبهتين لا موضع له، فقدراته العسكرية تأسست بمراعاة الحرب على عدة جبهات، والتفوق على دول المنطقة مجتمعة، لكن ما طرأ من متغيرات على توازنات القوى جعل الحرب مُكلفة، وهو ما عالجه الكيان مع مصر باتفاق سياسي للسلام وتعاون اقتصادي في مجال الغاز، وواجهته مع إيران بـ «حرب الظل، والردع النووي»، مع الحرص على منعها من الوصول لنفس السلاح، رغم ذلك كان الرد الإيراني منتصف ابريل 2024 بالغ الكلفة على الجانبين، فقد قدر «رام أميناخ» المستشار الاقتصادي السابق لدى رئاسة الأركان تكلفة صواريخ الدفاع الجوي بقرابة 1.35 مليار دولار، بخلاف ما تحملته الولايات المتحدة وبريطانيا والأردن والسعودية من تكلفة المشاركة في التصدي للصواريخ والمسيرات، أما إيران فقد قدرت بعض المصادر انها استنفذت في الهجوم قرابة 20% من مخزوناتها، مما يفسر حرص الجانبين على تجنب الحرب الشاملة.
من يبدأ بالطلقة الأولى؟! الكيان بدأ حرب إجهاض ضد منصات إطلاق الصواريخ «أرض/أرض وأرض/جو»، ومستودعات الأسلحة والذخائر، ومعسكرات تجمع مقاتلي حزب الله، لحرمانه من عنصر المبادرة، لأن اجتياح «فرقة الرضوان» للحدود قد يسبب خسائر فادحة، ويسقط نظرية أمن الكيان.. التقديرات تشير الى حرص الكيان على الانتهاء من إنشاء منطقة عازلة من الحدود حتى نهر الليطاني خلال الأسابيع المقبلة، حتى يتمكن من إعادة 100 ألف نازح لشمال البلاد قبل استئناف الدراسة في سبتمبر المقبل، لكن المعركة ستكون ضارية وخسائرها فادحة، لكفاءة تدريب وتنظيم تشكيلات حزب الله وقدرتها على الالتحام، وامتلاكها شبكة متطورة من الأنفاق تدعم كمائنها، وحدودا برية مفتوحة مع سوريا لاستقدام مقاتلي فيلق القدس والميليشيات السورية والعراقية والأفغانية، بخلاف الدعم الروسي، ناهيك عن تهديده لآبار الغاز.