ليست مجرد رحلة بدنية إلى مكة المكرمة، بل هي رحلة روحية تمتد إلى أبعد الحدود، حيث تجمع فريضة الحج بين الطاعة العبادية والمشاعر الإيمانية، فيتوافد المسلمون من كل أرجاء العالم إلى بيت الله الحرام، لتأدية مناسك الحج وفق تعاليم الشريعة الإسلامية، وتتجلى أهمية الحج في عدة جوانب تعكس عمقها الروحي والاجتماعي والفكري في حياة المسلم، فهي فرصة للمسلم ليتوب ويتطهر، وليستغفر الله، وليجدد عهد التوحيد والاستقامة، ويجدد العهود مع الله والناس والنفس، فالركن الخامس من الإسلام هو عودة للروح وفرصة للتأمل والتفكر في عظمة الخالق وعظمة الدين، وينمي التواصل الإنساني بين المسلمين من كل الأعراق والجنسيات.
شعور الحجاج في أطهر بقاع العالم، خلال أداءهم لمناسكهم المقدسة، لا يمكن وصفه بآلاف الكلمات، فهو مزيج من الخشوع العميق والسكينة الروحية، فيشعر المسلم بأنه قد حقق أعظم طموح لقلبه بوقوفه بين يدي الله تعالى، ويشعر بالانتماء العظيم لأمة واحدة تتجمع في أطهر بقاع الأرض، ففي كل خطوة يخطوها المؤمن في رحاب أرض الحجاز يجد نفسه وسط حشود من المسلمين، يتشاركون في هذا الركن العظيم من أركان الإيمان، حيث تجتمع الأعراق والألوان واللغات تحت راية الإسلام الواحد، داعية للتفاهم والسلام بين الشعوب، لذلك يظل الحج عملية تجديد للروح والهوية الإسلامية، ودرسًا للتسامح والتعاون العالمي والتواصل الروحاني مع الله ومع النفس.
ففي كل عام، يتوافد المسلمون من جميع أنحاء العالم إلى رحاب مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، الشعيرة الدينية العظيمة التي تجمعهم في قلب الإسلام وتجسد التوحيد، ومع كل دورة للحج، تتجدد التجارب والمشاعر التي يعيشها حجاج بيت الله الحرام بمجرد أن يخطو المسلمون قدمًا في المشاعر المقدسة، ينغمسون في أجواء تملأها روح التواضع والتعبد، ويبدأون بالطواف حول الكعبة الشريفة، وهم يرددون الدعاء والتسبيحات، وتتداخل أصواتهم في همسات من الدعاء والاستغفار، معلنين تواضعهم أمام عظمة الله.
ولعل الركن الأعظم في الحج هو الوقوف على جبل عرفات، حيث يتجمع الحجاج بفؤاد واحد، يتوجهون بأبصارهم وقلوبهم إلى الله، يسألونه الغفران والرحمة، في لحظات من الوقوف بين يدي الله، تتناثر الدموع وينتابهم شعور بالسلام الداخلي والتآلف الروحي مع إخوانهم، ثم يتوجهون إلى منى، حيث يرمون الجمرات ويضحون بالهدي، وتتجلى الفرحة والرضا في وجوههم، فيشعرون بأنهم أكملوا مناسكهم المقدسة بنجاح، وحصلوا على رضا الله تعالى، وتصبح كل جهودهم وتضحياتهم مكافأة في سبيل الله، مما يعزز إيمانهم ويرتقي بهم روحيًا
وعندما يعود الحجاج إلى بيوتهم، يحملون بقلوبهم مشاعر السلام والرضا، وذكريات لا تنسى من رحلة دينية حققوا فيها تقربهم إلى الله وتواصلهم مع المسلمين من كل الأعراق والجنسيات تحت راية واحدة.
سيرة طيبة محفوفة بحُسن الختام.. "الحاجة نوال العوضي" دعت بالموت على عرفات فاستجاب الله لها في الحال
مشهد يخالف التوقعات ولا نراه كثيرًا، فقد كانت حفلة توديع مملوءة بالابتسامات الراضية والصابرة ومواقف من السيرة الطيبة، لم يكن تجمعًا للبكاء والنواح وعبرات الوداع وعبارات الفقدان، بل كان مجلسًا عطرًا يحكي قصة حياة سيدة عاشت صابرة مؤمنة مكافحة راضية وحياتها مملوءة بالنجاحات الشخصية والمهنية وتركت أبناءًا ورثوا منها الإرادة والقوة والنجاح ونالوا حب واحترام الجميع.
ففي أحداث تجسد روح الإيمان والتفاني وختام الرحلة العطرة، تركت الحاجة "نوال عبد الشافي العوضي" 84 عامًا، بصمة لا تُنسى في موسم الحج هذا العام، حيث دٌفنت بأرض الحجاز بحسب وصيتها بعدما صعدت الروح المؤمنة لبارئها على جبل عرفات وهي تتلو آخر دعائها وتستودع نفسها إلى الله وتناجيه أن يقبض روحها على هذه البقعة الطاهرة، فبعدما أرسلت الدعوات للجميع من رحاب مكة المكرمة إلى موطنها الأصلي بقرية طحانوب بمركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية، بدأت بمناجاة الله لنفسها أن يقبض روحها هناك، وكان بجابنها نجلها الدكتور "أحمد العوضي"، فخاطبها لماذا لا نعود سويًا فلا تطيب الحياة إلا معك وبك، فأجابته قد أنهيت رحلتي في الحياة بفضل من الله على أكمل وجه وطلبت تلك الخاتمة من الله كثيرًا ولعله يستجيب، فاستجاب الله لها في الحال.
تقول ابنتها السيدة "ايناس مصطفى" أن حياة والدتها لم تكن خالية من التحديات، فقد فقدت زوجها مبكرًا وترك لها أربعة من الأبناء كانت لهم الأب والأم معًا، ولكنها كانت دائمة السعي والاجتهاد والعطاء، فقد استطاعت أن توازن بين عملها وتدرجها الوظيفى حتى أصبحت ناظرة المدرسة في عمر لا يتعدى الـ 35 عامًا، وبين رعايتها لأبنائها وأحفادها الذين تدرجوا في الوظائف المرموقة المصحوبة باليد النظيفة وحُسن السلوك والمعاملة الطيبة والتواضع بين الجميع، وكانت تحافظ على الصلاة في المسجد والمداومة على أذكار الصباح والمساء ولها ورد يومي لا ينقطع بعد صلاة الفجر، وكان البر الذي لا يفنى لديها هو "إصلاح ذات البين" فكانت تسعى دائما لتقارب المسافات وبقاء الود وتصفية كل الخلافات بين المتنازعين.
وأوضحت زوجة نجلها الدكتور "أمجد"، أن الحاجة نوال كانت أمًا للجميع ولم تفرق في المعاملة يومًا ما، وقد ختمت القرآن الكريم ثلاثة مرات في فترة موسم الحج، وكانت تدون ذلك في ورقة ما زالت موضوعة داخل مصحفها وقد توقفت في الختمة الرابعة عند سورة التوبة، مما يدل على أن تلك الروح طيبة ومقبولة عند الله، وأشارت نجلتها الكبرى السيدة "أمل مصطفى" أن والدتها قد تمنت كثيرًا منذ عشرات السنوات أن تقبض روحها وتُدفن في أطهر بقاع الأرض، وكانت تسعى لسنوات في حج القرعة حتى كتبها الله أخيرًا، وعن اللحظات الأخيرة في حياتها فقد طلبت من نجلها أن يستريح قليلًا إشفاقًا عليه، لأنها كانت تؤدئ مناسك الحج على كرسي متحرك أغلب الوقت فيما تتحامل على نفسها بصعوبة وتحاول جاهدة السعي والشعور الحقيقي بمشقة الرحلة التي تمنتها طيلة حياتها، وجلست بين أيادي الله تدعو للجميع بأطيب الدعوات وجعلت نفسها للختام فقالت "اللهم ببركة نبيك المصطفى أن تجعل آخر أيامي في جبل عرفات".
وأضافت زوجة نجلها المهندس "أحمد"، أنها قد حُرمت من والدتها في سن صغيرة، وشاءت الأقدار أن يعاني نجلها أحمد من اليُتم في سن العاشرة، وقد جمع القدر بعد فترة بينها وبين المهندس "أحمد" نجل الحاجة نوال التي رحبت بها ضمن عائلتها الكريمة هي ونجلها أحمد الذى نشأ داخل جدران هذا المنزل ذو "الريح الخفيف" والسيرة الحسنة، قائلة "ده طفل يتيم ولازم يعيش مع والدته واحنا منسيبش اليتيم"، وأنها طلبت من زوجة نجلها أن تناديها بأمي قائلة " أنا عارفة اليُتم وأم لكل اللي ملوش أم"، وأشارت إلى أن نجلها قد دخل هذا المنزل في عمر العاشرة حتى تخرج حاليًا من كلية الحاسبات والمعلومات وسط عائلة تضفي حبًا وعطاءًا على الجميع، موضحة أنها بعد وفاة ماما نوال فقد شعرت بالُيتم الحقيقي وسط حزن وألم لا يمكن وصفه بآلاف الحكايات والكلمات.
وعن علاقة "الحاجة نوال" بأحفادها، فقالت "ملك العوضي"، أن جدتها كانت أمًا حنونًا تسمع الجميع وتعطى الآراء المتزنة المحفوفة بالدعوات الصادقة، وتسعى دائمًا للم الشمل بين أطراف العائلة ومقابلتهم بالترحاب، وتتحامل على نفسها وتصنع لهم ما تشتهيه نفوسهم، مؤكدة أنها في أواخر أيامها كانت تحكي الكثير من الحكايات عن زوجها الراحل ومواقف من سيرته الطيبة وتتمنى أن تلحق به في جوار الصالحين بعدما أدت رسالتها في الحياة بالشكل الذي ارتضاه أبنائها ومحبيها، ودلل الله على رضاه به بعدما أكرمها بحُسن الخاتمة.
وختامًا، تظل قصة الحاجة نوال عبد الشافي العوضي مصدر إلهام للكثيرين، فهي لم تكن مجرد سيدة عادية، بل كانت قدوة في الإيمان والتفاني، وقد عاشت حياتها ودُفنت بنفس القوة والأمل وحب الخير، وتركت خلفها ذكرى تعيش أكثر من العمر ومثالاً يُحتذى به في السعي الدائم بخطوات ثابتة نحو الخير والنجاح في الدنيا والآخرة.
الحاجة نعيمة: ادخرت مبلغ الحج طيلة حياتي بجانب تربية أبنائي الأيتام وكان الجميع يراه حلمًا مستحيلً
في عصر يوم من شهر ذي الحجة، ووسط أجواء يسودها فرحة الاستقبال وانتظار المحبين، عادت الحاجة نعيمة مصطفى 68 عامًا، إلى أرض الوطن بعد رحلة الحج المباركة، تاركة وراءها ذكريات ممتلئة بالروحانية والتأمل، وقصة حياة مليئة بالصبر والعطاء، ولكن هذه الرحلة لم تكن مجرد سفر ديني، بل كانت أيضًا رحلة شخصية وعميقة تغلغلت في كافة مسارات حياتها،نعيمة، والأبرز في هذه القصة أنها لم تتمكن من القيام بالحج في وقتٍ سابق من حياتها بسبب الالتزامات والمسؤوليات العائلية والمالية، حيث توفى زوجها وترك لها ثلاثة فتيات وشاب وحيد في سن صغيرة، كافحت تلك السيدة العظيمة طيلة حياتها وأتمت رسالتها بنجاح وإخلاص وصبر، ةكانت تدخر كل شهر طيلة مبلغ زهيد طيلة سنوات وسنوات بنية الذهاب إلى بيت الله الحرام،وقد نمت لديها تلك الرغبة قائلة "تعبت وشقيت في حياتي كتير وكنت عايزة أرمى همومي بين أيادي الله عز وجل"، فدائمًا ما تضعنا الحياة أمام تحديات ومسؤوليات تؤجل أحيانًا أحلامنا الكبيرة.
وبعد وفاة والدها الذي ترك لها قطعة أرض صغيرة كإرث، قررت الحاجة نعيمة أن تبيع هذه الأرض لتتمكن من تحقيق حلمها بأداء فريضة الحج، موضحة أن نجلها الوحيد قد شجعها على ذلك ولكنها كانت مترددة لأنها تنوي أن تساهم يثمنها في إتمام تكاليف زواجه لكنه عارضها قائلًا" حج بيت الله الحرام بالنسبالك أهم من زواجي في الوقت الحالي".
وأثناء رحلتها إلى أرض الحجاز، تقول أنها قد شعرت بنوع من السلام الداخلي والرضا، فقد أدت مناسك الحج بكل خشوع واجتهاد، وقضت وقتًا في تأملات عميقة وصلوات متكررة، تعبيرًا عن شكرها وامتنانها لله على هذه الفرصة العظيمة، وعندما عادت إلى أرض الوطن، لم تعد هي الشخص نفسه الذي غادر قبل أسابيع قليلة، فقد حصلت على نور جديد ينبعث من وجهها، وثقة أكبر في طريقها وقدرتها على تحقيق ما تصبو إليه، مشيرة إلى أن تلك التجربة هي الأعظم على الإطلاق في حياتها، حيث تيقنت أنه ليس هناك شيء يمكن أن يعيقنا عن تحقيق أحلامنا، بل يجب علينا أن نكون جاهزين للتضحية واتخاذ القرارات الصعبة وتقديم كل غالٍ ونفيس والعمل بصبر طوال سنوات لا تحصى من أجلها.
وتوصف شعورها عند عودتها إلى أرض الوطن، أنها وجدت أبنائها وأحفادها يستقبلونها بذراعات مفتوحة وقلوب ممتنة لرحلة العطاء ودموع الفرح بتحقيق حلمها المنشود، فلم تكن رحلة الحج مجرد سفر ديني بالنسبة لنعيمة، بل كانت رحلة شخصية عميقة أثرت بشكل كبير على حياتها وعلى حياة أسرتها، فقد عملت على تحقيق هذا الحلم منذ سنوات عديدة، وكانت تعمل بجد وتدخر كل ما تستطيع في ظل ظروف مادية صعبة، وكان على عاتقها رعاية أبنائها الأيتام بعد وفاة زوجها، الذي تركها مع مسؤولية كبيرة، وكانت تواجه التحديات اليومية وتبذل جهودًا كبيرة لتوفر لهم الرعاية والحياة الكريمة، وكانت تدخر بالتزامن مبلغ الحج، ولا تدع كل تحدي يثنيها عن هدفها الديني.
استقبال أبنائها لها كان حدثاً مميزاً ومفعماً بالمشاعر الجياشة، حيث احتضنوها بدفء وحب، وسط دموع الفرح والابتهاج، فكانوا على تمام اليقين بمعرفة ما مرت به أمهم من تضحيات وصبر، وكم كانت الرحلة الدينية مهمة بالنسبة لها، وتحدثوا عن الأيام الصعبة التي عاشوها معًا، وعن كيفية تربيتهم ودعمهم الذي لم ينقطع أبدًا.
وتعتبر قصة "الحاجة نعيمة" واحدة من آلاف القصص والروايات التى تروى كل عام في هذا الموسم المبارك، وتخلق حافزًا جديدًا لتكون قدوة لأبنائها وللشباب في الإيمان والصبر والإصرار والتفاني، وتنسج قصصًا ملهمة عن الإرادة الصلبة والإيمان العميق، وعلى قوة العائلة ودعمها الذي يمكن أن يحقق ما يراه الجميع مستحيلًا.