تشعر من الوهلة الأولى كأنك قد تعمقت في قراءة فصل في رواية أو جلست أمام مشهد في فيلم سينمائي، فترى الرجال مصطفين ومتقابلين قد اجتمعوا على عقد "مساعي الصلح" بين المتنازعين والخروج بحل يرضي جميع الأطراف ويحقن الدماء ويمنع تسلسل الخصام ويوقف تمادي عدد الأطراف الممتدة في العداء، فلجان الجلسات العرفية التي تنعقد في كافة قرى مصر تُسمي "القضاء الناجز" الذي يعتمد على المواجهة بين المتنازعين وسرد كل طرف لحجته أمام الآخر للوصول إلى الحقيقة بأكملها في أسرع وقت، وبمجرد صدور الحكم بعد سماع الأطراف والشهود وترك الحكم للمداولة لا يجوز عدم تنفيذ الحكم العرفي، وهناك شروط جزائية وبنود واتفاقات يجب الالتزام بها، كما يبادر الطرف المخطئ بزيارة الطرف الآخر لإثبات إتمام الصلح ويجب على الطرف الثاني رد الزيارة كنوع من قبول الصلح والتراضي التام.
فالجلسات العرفية عبارة عن هيئة محكمة مكتملة الأركان من قاض، ومستشارون، ودفاع، وشهود، وحاضرون، وحكم يصدر آخر الجلسة مثل حد السيف على رقاب الجميع، دون أن يكون لهم حق الاعتراض، لأنه بحسب العادات والتقاليد والدين فإن "الكلمة شرف وشرف الرجل هو الكلمة"، وفى الحقيقة المحكمة هنا لا تختلف عن المحاكم العادية في شيء، فالأمر لا يتطلب أن يضع القاضي وشاحا على صدره كما هو متعارف عليه في المحاكم العادية ولا يرتدى دفاع المتهم "روبًا" أسود، كما أن المتهم نفسه لا يدخل إلى قفص الاتهام مهما كانت جريمته، ولا يتم التواصل عبر المحامين وتقديم الأوراق ولكن يعتمد على المواجهة المباشرة بين الأطراف المتنازعة والوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، فجلسة الصلح العرفية يحضرها شيوخ وكبار القبائل في المنطقة، وفى ظل حضور أمنى مكثف حتى يكون الحضور شاهد على إنهاء الخصومة الثأرية وإتمام عملية الصلح، لكن ما لا يعرفه الكثير أن عملية تقديم الكفن ليست بالأمر الهين وتستغرق شهور وربما سنوات وجلسات عرفية قد تُقدر بالعشرات قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنها.
كما أن المجالس العرفية لها دور قوى في إرساء ثقافة التصالح والتسامح، وهى تمثل نوعا من أنواع المصالحة الإجبارية التي تسبق التحكيم الاختياري، فضلا عن دورها في تسيير إجراءات التقاضي وتحقيق العدالة الناجزة، حيث أن القانون المصري يعترف بالتحكيم العرفي إذا تم بإجراءات صحيحة، ولكن في حدود ضيقة ووفقا للقانون المصري مادة رقم 27 لسنة 1994، فهناك اعتراف به وبالتحكيم الدولي وفق ضوابط وآليات معينة لدوره البارز في الحفاظ على الروابط الاجتماعية والأسرية.
قاضي عرفي: نحن خاضعين لقضاء المنصة ونقدم مساعي الصلح لحقن الدماء وحفظ الروابط الاجتماعية
ورثت العمودية عن جدي ووالدي بعمر الـ31 ولكن لا أنوي توريثها لأبنائي
رجل في الثالث والخمسين من عمره، قد عمل كـ "مُحَكِم" عرفي منذ ما يقارب 25 عامًا، فقد ورث العمودية عن جده ووالده في عمر الحادي والثلاثين وتغلغل في جلسات الصلح والجلسات العرفية منذ ريعان شبابه، حتى صار على علاقة وطيدة بكل من حوله أو مثلما يقال عنه "ليه ناس في كل بلد"، فيطرق الناس أبوابه المفتوحة للجميع لعقد جلسات فض المنازعات والوصول لحلول سلمية وناجزة تقتضي بالعدالة على الجميع في أسرع وقت وتوقف حقن الدماء وتمادي العداء، يقول الحاج "أيمن عيد العمدة" أن القضاء العرفي خاضع لقضاء المنصة الذي له كامل الحق والصلاحيات والسلطة التنفيذية والكلمة العليا، ولكن نحن نسعى إلى إتمام الصلح ووقف العداء حتى تصدر المحكمة الرسمية قرارها الذي يسري على الجميع، فنحن نعمل على سرعة التدخل والمواجهة بين الأطراف لإظهار الحقيقة كاملة، ووقف العداوة بإتمام الصلح أمام الشهود إعمالًا بقول الله تعالي "وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون".
وأضاف أنه للأسف الشديد فإن أغلبية القضايا تكون بين الأقارب والجيران والإخوة والأرحام، لأنه بطبيعة القرى فإن العائلات تسكن بجوار بعضهم البعض وكذلك الإخوة وتتولد هناك كراهيات محتومة تتفاقم مع مرور الزمن حول الخلافات على الميراث أو بين النساء والأطفال مما يجعل الأهالي تتدخل ليستمر النزاع ويتضخم، فالحل هنا بين الإخوة ليس السجن وتدمير أسر بأكملها ولكن تعتمد الجلسات العرفية على "تأديب" الناس ماديًا، فمن أخطأ يدفع ثمن أخطائه، موضحًا أنه في كثير من الحالات يتم التنازل عن الأموال للطرف الآخر في حالة النزاع بين الإخوة والأقارب، وذلك لأن الطرف المظلوم يشعر بالتراضي بمجرد الاعتذار أمام الرجال وإبداء النية الحسنة لعودة العلاقات الطيبة.
أما عن حالات القتل العمد وشبه العمد والقتل الخطأ، فأوضح" عيد" أن الدية قد شرعت للقتل الخطأ ولكن في بعض حالات القتل العمد وشبه العمد يكون الجاني مطالبًا بالدية والقصاص، والطرف الآخر له تمام الحق في القبول أو الرفض، فعند الرفض يتم اعتماد القضية إلى المحاكم الرسمية، وفي حالات القبول فيتم فرض "الدية" و"تقديم الكفن" والذهاب إلى المحكمة لتعديل الأقوال، فيكون القاضي على علم بأنه قد تم الصلح ولكن له الحق الكامل في النطق بالحكم الذي يراه مناسبًا، مشيرًا إلى أنه قد تسير القضية في اتجاهين، الأول هو النطق بالبراءة أو النطق بالسجن أو الإعدام، وفي الحالتين لا يتم استرداد الدية المدفوعة أو الطعن في حكم الجلسة العرفية.
وأوضح" عيد" أنه لا يجوز رفض حكم الجلسة العرفية بعد الاتفاق وصدور الحكم، ولكن يتم الرفض أثناء انعقاد الجلسة بجملة متعارف عليها وهي "شرع الله عند غيركم"، فحينها يتم فض الجلسة واللجوء لمحكمين آخرين أو لقضاء المنصة، موضحًا أن المحاكم العرفية لا تقبل قضايا الشرف والعرض والخيانات الزوجية لأن الستر فيها مطلوب، ولكن في حالة الإصرار يتم التحكيم فيها بداخل غرف مغلقة وبحضور المتنازعين فقط وبدون الدخول في تفاصيل كاملة، وتعرف هذه الجلسات باسم "المخلاوية" أو "غرف المداولة"، وبشكل عام في كل الجلسات فإنه يتم إمضاء الأطراف المتنازعة على تعهدات بعدم اعتدائهم على بعض لحين انعقاد الجلسة وتحديد مكان معين للانعقاد يرتضوه سويًا.
أما عن صدور الأحكام العرفية، فأشار إلى أن الأمر يسير في ثلاثة اتجاهات، الأول هو الإجماع وهنا تجتمع الأطراف على رأي واحد، وهناك رأي الأغلبية، وثالثهم الترجيح فعند تعادل الأصوات يتم اتخاذ رأي صاحب البيت المنعقد به جلسة الصلح، والرأي الذي يرجحه هو ما يتم اعتماده كقرار نهائي لفض النزاع، وبعدها يتم تحديد 40 يوم لدفع الأموال المستحقة وبعد مُضي تلك الفترة تتضاعف القيمة للضعف في حالة عدم السداد، موضحًا أنه هناك شروط جزائية يلزم على الناكث بالعهود سدادها للطرف الآخر.
وأوضح أنه على الرغم من عشقه الشديد لقضاء حوائج الناس، إلا أنه لا يفضل أن يورث العمودية أو التحكيم العرفي لأبنائه، لأن ذلك قد جار على حق بيته وأولاده ومصالحه، مفضلًا أن يركز أبناؤه في تعليمهم ومصالح أسرتهم وتوفير كل الوقت والجهد لرعاية أطفالهم ومستقبلهم، موجهًا الشكر للدولة المصرية وقياداتها الحكيمة في اعتماد كل الطرق المشروعة التي تعمل على حقن الدماء وحفظ الروابط الأسرية والاجتماعية وتعزيز الأمن العام، مناشدًا إياهم بدراسة مشروع يعمل على اختيار لجنة تحكيم عرفي رسمية خاضعة للجهات الأمنية في كل مركز داخل كل محافظات مصر.
مُحَكِم عُرفي بعمر الـ30: ما لا يُنفي في العرف يتم إثباته ونخضع للداخلية في القتل ونزاعات العائلات الكبيرة
محكمة الجنايات لا تعترف بجلسات القضاء العرفي وليس لها قيمة أمامها حفاظًا على هيبة الدولة والأمن العام
"ما لايُنفي في العرف يتم إثباته"، هكذا هو القانون المتعارف عليه في الجلسات العرفية، هكذا بدأ المحامي "محمود رمضان" حديثه عن طبيعة المحاكم العرفية، قائلًا يتم سماع أقوال الطرف الأول كاملة ثم إفساح المجال للطرف الآخر للتعقيب أو إضافة حجته، وما لا ينفيه عن نفسه فيتم إثباته كواقع وحقيقة، لأن الصلح قائم على فكرة مواجهة الأطراف للوصول إلى حقيقة الخلاف وأبعاده، ويكون الحكم في الغالب "ماديًا" بعقوبة مخففة أو مغلظة حسب كم الإصابات والأخطاء أو الجرائم، وفي حالات القتل الخطأ فيجوز لولي الدم أن يقبل الدية ويعفو عن القصاص، مؤكدًا أن القضاء العرفي ليس سلطة تنفيذية بحد ذاته وإنما يخضع لقضاء المنصة في كل الظروف والأحوال، فهو محاولات اجتهادية لإتمام الصلح وسرعة حل النزاع ويتم بإشراف من وزارة الداخلية في حالات القتل العمد وشبه العمد وفض النزاعات بين العائلات الكبيرة التي قد تتفاقم فيها المشكلات وتودي بحياة العشرات من الأرواح.
وأضاف "رمضان"، أصغر قاضي عرفي مصر حيث عمل بالقضاء العرفي عمر الـ 22، أن مسألة حل المنازعات من خلال المجالس العرفية هي وسيلة مجتمعية فاعلة في إرساء ثقافة التصالح والتسوية الودية داخل المجتمع، خاصة مع تباطؤ دورة صدور الأحكام فضلًا عن زيادة مصاريف التقاضي تدفع بعض المواطنين إلى طرق أبواب المجالس العرفية لفض صراعات قبلية أو غيرها قد تستغرق سنوات طويلة تنتظر التنفيذ في المحاكم، وهو الامر الذى تم الأخذ به بعد ذلك في المنازعات الأسرية حيث تم تطبيقه من خلال "مكاتب تسوية المنازعات" حتى أصبح الوضع قانونياَ، موضحًا أن ثقافة المجلس العرفي قائمة على تعزيز وإرساء ثقافة التسامح والتصالح عن طريق الإقناع والحكمة، خاصة في القرى والنجوع، ويجب أن تنتشر تلك الثقافة أكثر ويعمق دورها، على أن يكون التحكيم فيها لشيوخ وعلماء وقساوسة أجلاء، يمتلكون المعرفة والعلم والحكمة والبينة، ولابد من الابتعاد عن أهل الجهل ومن يستغلون مثل هذه الأمور فى الدعاية الانتخابية.
وأوضح "رمضان" أن مجرد اللجوء للجلسات العرفية يعنى قبول أحكامها، وقد نظم القانون المصري فكرة التحكيم في المواد المدنية والتجارية في القانون 27 لسنة 94، حيث يتم إبرام اتفاق تحكيم بين أطراف النزاع يتضمن القواعد التي سيتم تطبيقها وإجراءاتها وكيفية اختيار المحكم الممثل لكل طرف ويتم إثبات ذلك كتابة، ولا يجوز الطعن على حكم التحكيم إلا لبطلان الحكم أو إجراءاته، كما أن الجلسات العرفية تصلح في بعض القضايا مثل الجنح والقتل الخطأ والنصب وخيانة الأمانة والضرب والإصابة الخطأ وتكون ملزمة للمحكمة، ولكنها لا تصلح في بعض القضايا مثل القتل العمدى والاغتصاب وهتك العرض والحريق العمدى، كما أن محكمة الجنايات لا تلتزم بأي جلسات عرفية وليس لها قيمة أمامها، لأن قضاياها تنفذ ضد المجتمع، كما أن الجلسات العرفية أحيانا تكون سببا في تخفيض العقوبة على المتهمين وهذه مرحلة تقديرية لهيئة المحكمة، وأن هذه الجلسات ليست بديلة عن القضاء الطبيعي، ولكن تصلح لبعض القضايا، وهناك قضايا لا تصلح معها أي جلسات عرفية ولابد من تطبيق القانون عليها بكل قوة ليكون رادعا للجميع لعدم تكراره مرة أخرى، وأن القضاء العرفي ليس له حق في الفصل في القضايا الجنائية التي ينتج عنها سقوط أرواح ودماء وهذا من اختصاص القضاء الجنائي الذى يضمن حق المجتمع في جزاء رادع لكل من تسول له نفسه إرهاب المواطنين واستباحة دمائهم.
وأشار إلى أن للقضاء العرفي له 4 تخصصات كما هو متعارف عليه، وهم قضايا "العِرض والعار " الذى تحكم في أمور النساء، أو "منقع الدم" الذى يفصل في الخلافات التي أدت إلى وقوع ضحايا، وقضايا "الأرض والمال"، فيما يكون التخصص الرابع من القضاء العرفي متمثلًا في قضايا "الجروح والإصابات "، وفى الحقيقة "القضاء العرفي" هو الوسيلة السريعة والناجزة لحل الخلافات بين المتنازعين، ويتكون عادة من عدة لجان للمصالحات تتشكل من المتمتعين بشعبية كبيرة بين الأهالي أو كبار رجال العائلات، وتتلخص مهامهم ليس فقط في فرض أحكام بعينها وإنما تصفية التشاحن بين النفوس وإنهاء الخصومة لتبدأ علاقة جديدة بين المتنازعين محكومة بشروط جزائية تُفرض على أي طرف من الطرفين حال مخالفته ما انتهت إليه لجان التحكيم.