أكتب هذا المقال من وحي تدوينة كتبها الأديب الكبير والشاعر نعيم صبري. قال: "سأسبب ورطة لمن سيريد رثائي في يوم ما، فلن يجد ما يقوله، فلم أحصل على أي جوائز يفتخرون بها، ولم أُترجم إلى أي لغة، وقرائي محدودون". وقد حرّكَت هذه الكلمات الحزينة مخزونًا من العواطف الصادقة بداخلي تجاه هذا الأديب الكبير وغيره من كتاب ورموز كبار لم يحظوا بالتكريم والجوائز، بينما يستحقونها عن جدارة، بل إن مفهوم التكريم الحقيقي يعود علينا لأننا نحن كقراء ومتلقين من استمتعوا بإنتاجهم؛ ونعيم صبري من الأدباء الذين تُعتبرُ أعمالهم من مصادر التاريخ حيث جعلنا نقرأ تاريخ مصر عبر رواياته وتعرفنا على الثورات وما صاحبها من آمال وإحباطات، وعشنا من خلاله ثنائية الانتصار والهزيمة في جيل ثورة يوليو من خلال روايته "صافيني مرة"، وكيف اختزل في أغنية عبد الحليم حافظ تاريخ مصر المعاصر كله ومأساة جيل، بداية من اتفاقية الجلاء التي كانت محور الكفاح المصري خلال 70 عاما، من أحمد عرابي مرورا بثورة 1919 ومصطفى النحاس، وصولًا إلى الانتصار المعنوي في 1956 والوحدة بين مصر وسوريا ثم هزيمة 1967؛ هذا الجيل عاش انتصارات الثورة وعظمتها ثم عانى من ويلات النكسة التي أنهت حياته معنويًا.
كما جعلنا الكاتب نمرُّ على أحداث تاريخية أخرى مهمة مثل زيارة الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر إلى مصر بدعوة من مؤسسة الأهرام له وحليفته سيمون دي بوفوار في مارس 1967 وأشرف عليها الكاتب الكبير لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة الطليعة. وتعرفنا أيضا على واقعة اغتيال الرئيس الأمريكي الخامس والثلاثين جون كينيدي في 22 نوفمبر1963. كما تعرفنا على البيانات العسكرية لحرب 1973 وكيف تمكنت القوات المسلحة من اقتحام مانع قناة السويس واجتياز خط برليف المنيع وعبور الضفة الشرقية من القناة.
كما عشنا مع أديبنا نعيم صبري مشاعر منتصف العمر في "أمواج الخريف"، وتعرفنا على الصراع بين الطبقات في رواية "الابنة فاتن"، ثم عانقنا أحلام البطل في "أوبرا الأستاذ تحتمس"-وهو تحتمس الثالث أكثر ملوك مصر القديمة تحققًا وإنجازًا- واحتمينا في "شبرا " من كافة التشوهات التي أصابت المجتمع المصري نتيجة التعصب الديني والعمليات الإرهابية، فشبرا ذلك الحي الذي يرمز للتعايش بين الأديان والأعراق أصبح واحة الاستقرار والتنوع الثقافي والديني التي نلوذ بها من خيباتنا حتى لا ننسى في خضم الحروب الجديدة قيم التسامح التي شيدها المجتمع المصري عبر قرون طويلة ودفع فيها أثمانًا غالية. وقد رأينا ما طرأ على حي شبرا من هزات وفساد في رواية "الحب السابع".
ما استعرضته بعضًا قليلًا من أعمال كثيرة وسيرة غنية بالإنتاج بدأها نعيم صبري بكتابة الشـعر وأصدر ديوانين، يوميات طابع بريد وتأملات في الأحوال، ثم اتجه بعد ذلك اٍلى المسـرح وكتب مسـرحية شعرية موسيقية هي بئر التوتة، تلتها مسـرحيته الشـعرية "الزعيم". ثم عاد فأصدر ديوانه "حديث الكائنات". ومع كل هذه الدواوين يقول صبري في حواراته بكل تواضع "إنه لا يعتبر نفسه شاعرًا "!
وقائمة رواياته طويلة هي أيضا طويلة حيث كتب سيرته الذاتية في "يوميات طفل قديم"، ثم روايات أخرى كثيرة مثل "وتظل تحلم اٍيزيس" و"المهرج" و"أمواج الخريف" و"حافظ بتاع الروبابيكيا"، و"بين الإغفاءة والصحو"، و"المغني القديم"، و"دوامات الحنين" و"جنون العطش"، و"أنشودة الحنين" و"٢٠٢٠"، وغيرها الكثير.
بعد كل هذا الإنتاج الغزير، هل يحق لك يا أستاذ أن تحزن؟! وكيف لا يجد من يريد أن يرثيك -بعد عمر طويل-شيئًا يذكره عنك ؟! إن الحزن الحقيقي يا سيدي ليس لأننا لن نجد ما نقوله، فلدينا الكثير والكثير، ولكنْ لأن "جمهورية" القراء بدون سلطة، لذلك غالبًا لا تصل كلمتهم إلى مسؤول هنا ومؤسسة هناك لترشيح زعماء ورموز هذه الجمهورية، رغم كونهم من يستحقون أن نكرمهم؛ بل نستحق أن يتم تكريمهم من أجلنا نحن ومن أجل كل ما قدموه لنا من إبداع يبعث الطمأنينة في نفوسنا الجزعة.
أنت يا أستاذ نعيم من يثري شخصياتنا ويصنع ذكرياتنا وأحلامنا. نعم إنه الاطمئنان بكم وبفضلكم، فكلما أشاهد احتفالًا بشخصيات سياسية وفكرية وأدبية ذات قيمة تشعرني المناسبة بالاطمئنان، ربما قبل الفرح والابتهاج؛ ليس لأن الشخصية تنال ما تستحقه من احتفاء وتكريم وتقدير -هو في الحقيقة لا يضاهي تعبها واجتهادها في سنوات العمر -ولكن لأن الاحتفاء من أجلنا؛ من أجل قيمنا وأجيالنا المتعاقبة والشابة في لحظات ملتبسة أو ربما هي كذلك لأنَّ مشاركتنا في صنعها يكاد يكون منعدمًا أو ربما لأن التغيير والإصلاح والحريات لا تعانق أحلامنا التائهة والمتناثرة.
إن الاحتضان بالقلوب والسواعد أصبح قيمة نادرة، وإن توفّرَ من الأصدقاء والمقربين من صاحب العطاء فإنه يشعرُ مع ذلك بنقص في مسيرته ويظل ينتظر تكريمًا مؤسسيًا من جهات بعينها. إن تكريمك يا سيدي ليس فقط تكريمًا لاستعادة التاريخ والمسيرة في تألق العطاء وإنما هو اشتياق للاقتداء بخطواتك ولقيم التواضع التي تتراكم وتعلو بها وبنا مع سنوات العطاء لطرد ثقافة رديئة سائدة هي ثقافة لا تشبهنا ولا تغرف من عمق تاريخنا وتهمّش الرموز "الحقيقيين" وتشوه القيم التي تنبع منا وتنكر الجميل لمن نسجوها وغزلوا كل خيوطها الخالدة.
لا تقلق يا أستاذ نعيم فأنت شخصية تستحق أن نضعها داخل عيوننا وبين رموشنا وداخل أضلعنا حتى نطمئن بك ونُطمْئِنك بأنك جدير بالفرح والحياة وأننا سنكون بخير بجدارتنا بك وليس مجرد احتفال بك واستعراض لمشوارك. ولعل البعض يقول إن هناك اختلاطا بين الحابل والنابل يجعل التمييز صعب بين من يستحق التكريم وبين المُدَّعين المندسين في موكب المبدعين، وعادة لا يظهر إلا صاحب الصوت العالي، كثير الصخب، أما العصافير التي تغني على أغصان الشجرة وتصنع عالمًا من الفن والرقة فلا يلمحها إلا الفنان المُقدّر للجمال.
وهنا الإجابة سهلة: إذا شعرت باشتباك لعدم القدرة على التمييز بين من هم المبدعون العظماء ومن هم المُدَّعون المزيّفون، هناك نصيحة اتبعها وستعرف حينئذ من يستحق التكريم ومن افتكه بحملات العلاقات العامة. لا تقلق ستختفي الحيرة والالتباس لأن أرواحهم ستنادي عليك؛ ستجدهم بسطاء متواضعين معجونين بكنز اسمه القناعة ينعمون بهدوء النفس ويمتلكون حضورًا براقًا وأرواحًا نقية نادرة جدًا. تلك علامات لا تخطئها لمن يستحقون التكريم من العظماء وأنت منهم وفي مقدمتهم يا أستاذ نعيم؛ دام إبداعك!
آراء حرة
الأديب الكبير نعيم صبري: لا تحزن!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق