إحدى مُمَيِّزات البلاد المتقدّمة، أنّه لا توجَد فيها فجوة بين العِلم والتطبيق، أي بين ما يتمّ دراسته واكتشافه واختراعه من جهة، وما يتم استخدامه في الحياة العمليّة من جهةٍ أخرى..
ولنأخُذ مثالًا توضيحيًّا؛ هل يَصِحّ أن تكون هناك دولة بها جامعات متقدّمة وأساتذة متخصّصون في مجال الهندسة الإنشائيّة مثلًا، ثم نجد أنّ المسؤولية عن تخطيط المُدُن وإنشاء الطرُق وبناء الأبراج السكنيّة تُعطَى لبعض مقاولي الأنفار، الذين لم يُكمِلوا تعليمهم المتوسِّط؟!
بالتأكيد في هذا عدم احترام للعِلم، وإهدار للكفاءات، وستكون النتيجة بالتالي حدوث كوارث مع تكاثُر الأخطاء الميدانيّة. وإذا استمرّ هذا الوضع غير السويّ بدون إصلاح ستتعقّد المشاكل جدًّا وتتأخَّر البلاد.
هكذا في جميع المجالات، من المنطقي أن يستلم المسؤوليّة علماء متخصِّصون، على دراية كبيرة بمجال عملهم.
في كنيستنا الحبيبة أيضًا؛ من المهم تطبيق هذا المبدأ في مجال التعليم، فلا يصحّ أن يكون هناك فجوة بين الدراسة والتعليم، بمعنى أنّه من الخطر أن يقوم بالتعليم أناسٌ لم يَستكمِلوا دراستهم اللاهوتيّة والإنجيليّة، وبالتالي فهُم يُقَدِّمون تعليمًا سطحيًّا أو مُمِلًّا أو مُشوَّهًا، يؤذي أكثر مِمّا يُفيد.
إنّ التعليم الذي يُقدَّم على منبر الكنيسة أو في القنوات الفضائيّة المسيحيّة، له أهمّية كبرى؛ إذ يُشَكِّل بدرجةٍ ما وعي الشعب القبطي الذي -كمعظم الناس في هذا العصر- يسمع ويشاهد أكثر مِمّا يقرأ.. لذلك فمسؤوليّة الكنيسة هي أن تُفسِح الفرصة للعلماء الدارسين والمُتَخَصِّصين بالحقيقة ليُساهِموا في التعليم، بغضّ النظر عن رتبتهم الكهنوتيّة.. ولعلّنا نتذكّر كيف كان القدّيس البابا كيرلّس السادس لا يجد أيّة غضاضة في أن يسمح لواعظ علماني أو شمّاس أو كاهن أو أسقف، بتقديم عظة العشيّة أو القدّاس في حضوره، بينما هو يصغي مع الشعب في احترامٍ كبير!
نشكر الله أنّ كنيستنا القبطيّة الأرثوذكسيّة الآن بها عشرات الآلاف من الخُدّام الدارسين والباحثين والعلماء في مجالات متعدّدة، سواء علمانيّين أو شمامسة أو كهنة أو أساقفة، والبعض حاصل على دراسات متقدّمة ودرجات ماجيستير ودُكتوراه من أعظم جامعات العالم.. وبالتالي فإنّه من المفيد جِدًّا للكنيسة أن يتمّ وضعهم على المنارة كي يُضيئوا لكلّ مَن في البيت (مت5: 15).
نشكر الله أيضًا أنّ كتابات آباء الكنيسة، والدراسات الآبائيّة والكنسيّة المتخصّصة يتمّ طبعها الآن وتداوُلها بغزارة، مِمّا يُثري المكتبة القبطيّة، ويساهم في تنشئة جيل جديد، يَدرِس بعمق تراث كنيستنا المجيد.. ويتبقّى فقط الجانب التطبيقي، بوضع النور على المنارة، وإعطاء الفرصة للموهوبين من هذا الجيل الجديد بأن يُساهموا بمساحة متزايدة في قيادة التعليم على المنابر في الكنائس، وفي القنوات الفضائيّة القبطيّة.. ولا يَليق أبدًا استبعاد أو تهميش مثل هؤلاء الدارسين، إذ في هذا خسارة فادحة للكنيسة.
بالتأكيد يوجَد لدينا آباء أساقفة وكهنة موهوبون في تقديم الكلمة، ولكنّ الدارسين منهم بعمق لتراث الآباء الأوائل، والمتخصّصين في العلوم الكنسيّة المتنوّعة لا يزالون قِلّة قليلة، وبالتالي فإنّ هذا يؤثِّر سَلبًا على جودة وعُمق التعليم في الكنيسة بوجه عام، في وقتٍ نواجه فيه تحدّيات إيمانية وأخلاقيّة وسلوكيّة متزايدة، ونحتاج لفكر آبائي غني يَكتسِح مثل هذه الأفكار المُضَلِّلة، وليس فكرًا تقليديًّا ضعيفًا.
من أجل هذا، فإنّه مثلما يَلزَمنا تشجيع الشباب على دراسة أقوال آباء الكنيسة الأوائل وكافّة العلوم الكنسيّة، فإنّه يلزمنا أيضًا -وبغير محاباة- إتاحة الفرصة للموهوبين منهم ليتواجَدوا على منبر الكنيسة، وفي مؤتمرات الخُدّام، وعلى القنوات الفضائيّة، لكي يقدِّموا تعليمًا آبائيًّا قويًّا ونقيًّا؛ بالإضافة إلى الاستعانة بالأساتذة الكِبار الموجودين الذين دَرَسُوا وترجموا كتابات آباء الكنيسة.. فهؤلاء وأولئك يُمَثِّلون كنزًا ثمينًا لدى كنيستنا القبطيّة من المهمّ أن يستفيد منه الشعب كلّه، من أجل بنيان الإيمان وتنمية العِشرة مع الثالوث القدّوس إلهنا، على أُسُس لاهوتيّة وإنجيليّة قويّة وراسِخة.