هنا فلسطين..هنا غزة.. حيث لحظات الظلام الساكن، وتلألأ شعاع الأمل الذي يتسلل إلى الأرواح المشتاقة للتعبير والتوثيق، ويسكب المبدعون في كل صباح قطرات الفن والسينما كالندى المنعش على أرض يغلفها الواقع المعتم، تتحدى أصواتهم الصامتة عواصف الاحتلال الإسرائيلي وزخات الظلم، لتنبعث من بين أنياب الصخور ورود الإبداع والمقاومة.
الفن الفلسطيني.. مشاهد تنبض بالحياة رغم الجراح
في قصصهم، نرى تاريخاً يتجدد، وأحلاماً تتشكل، ووجوهاً تبتسم رغم الجراح، إنهم فنانو ومخرجو فلسطين، يروون لنا قصة شعبٍ تحاصره الصعوبات وتتربص به المصاعب، لكنه يبقى قوياً في عزمه وعطائه. تمزج أفلامهم بين الواقع والخيال، تجسد لحظات الألم والأمل، تعكس وجداناً ينبض بالحياة رغم الجراح، وتدعونا لنسافر معهم في رحلة تفاعلية مع التاريخ والثقافة والهوية.
إنهم الفنانون الذين يتحدون القيود والحواجز، يكتبون بألوان السينما والفن حكاية لا تُنسى عن شعب يصنع الأمل في زمن الظلام، وينبض بالحياة رغم كل المحن.
"الجميلات قرابين الإله ونحن قرابين العصر"، كلمات للروائية الفلسطينية ديانا الشناوي، تصف بها فلسطين وكأنها قربان للعالم أجمع، وعلى غرار هذه الكلمات نفذ مخرج فلسطيني الفيلم الوثائقي "قرابين"، الذي يتناول موروثًا قديمًا عن ذبح الأكثر جمالًا وتقديمها للآلهة حتى تخلصهم من اللعنات..
فبرغم ما يحدث، يصر فنانو ومبدعو فلسطين على تقديم الحقائق، فإذا اغتال المستعمر الأجساد، تظل الصورة والكلمة والفن بشتى أنواعه والإعلام شاهدين على الظلم، ومرجع لمعرفة الحقائق.
غزة تنتصر بالفن والإعلام
يقول المخرج الفلسطيني مصطفى نبيه، الذي يتواجد في خيمة غرب مدينة رفح، بعدما نزح من حي النصر بغزة ثم إلى خان يونس، أن غزة تنتصر بالفن والإعلام بكل أشكاله ، فبدونهما من الصعب أن يصل صوت الشعب الفلسطيني للعالم، ودورنا كفنانين أن نقدم الصورة التي تعبر عن قضايانا وعن إنسانيتنا، قائلًا: غزة والسينما من المسافة صفر، مشيرًا إلى أن الإحتلال الإسرائيلي يحارب الفن والدليل على ذلك قتل الفنانين والمخرجين والصحفيين واعتقالهم .
وذكرت تقارير أن من الفنانين الفلسطينين الذين استشهدوا في غزة منذ عملية «طوفان الأقصى» الفنانة «إيناس السقا» هي وأطفالها الثلاثة بعد قصف الإحتلال لمنزلها، والممثّل «غازى طالب» و عائلته، والإعلامى الفلسطيني علي نسمان بسبب غارات من الإحتلال.
واستشهدت أيضاً الفنانة التشكيلية حليمة عبد الكريم الكحلوت، والفنانة والمحاضرة الأكاديمية بجامعة الأقصى نسمة أبو شعيرة، والكاتبة والشاعرة هبة كمال أبو ندى نتيجة العدوان المستمر على شعب غزة.
بينما اعتقلت قوات الإحتلال المطربة دلال أبو آمنة بسبب تدوينة على فيس بوك قالت فيها: «ولا غالب إلا الله» بجوارها علم فلسطين، والممثلة ميساء عبد الهادى لنشرها تدوينات على السوشيال ميديا تدعم فيها المقاومة.
نبيه: قرابين يكشف أن العالم يتعامل مع فلسطين باعتبارها قربان للآلهة
وأكمل نبيه حديثه إلى "البوابة نيوز"، قائلًا أنه من خلال فيلم "قرابين"، حاولت توضيح فكرة أن العالم يتعامل معنا كأننا قرابين للآلهة، فشبهت القرابين وهي الفتاة الجميلة بالشعب الفلسطيني والذي نحاول التعبير عنه، وصورت الواقع الذي نعيشه وواقع النزوح وانتقالنا من منازلنا والأمان الذي كنا فيه والآن أصبحنا نعيش بالخيام ، فانتقلنا من الحياة المرفهة إلى الحياة البدائية، بأدوات قديمة جدًا، وكل شئ له علاقة بالتكنولوجيا ينسحب من حياتنا.
وتابع "نبيه"، من خلال الفيلم قمت بتوصيل رسالة تعبر عن واقعنا، فنحن الفلسطينيين لسنا مجرد أرقام تموت، ولكننا كباقي العالم لنا ذكريات ومنازل، نحب ونكره ونتعلم، ونمتلئ ونتدفق بالمشاعر ونحب الحياة، فالكثيرون يحاولون تصوير الفلسطيني أنه لا يرغب بالحياة ، ونحن عكس ذلك “فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة” كما قال الشاعر محمود درويش، موضحًا أن فليم قرابين عرض مع 20 فيلم لـ20 مخرج من فلسطين في مهرجان كان، فهو رسالة للعالم بسبب رفضهم الحديث عن فلسطين في المهرجان، وفكرة وجود خيمة في المهرجان يعد إنجاز عظيم لنا حتى يشعر العالم أننا غير بعيدين وأننا جزء منه وجزء من هذا الكون.
وأشار المخرج الفلسطيني مصطفى نبيه، إلى أنه نفذ فيلم "ولنا حكاية أخرى" مع ثلاثة فنانين، مطربة وفنان تشكيلي وممثل محترف، والفنان التشكيلي كان حاصل على جوائز عالمية ويدعى محمد الديري، وقدمت من خلال الفيلم، الحياة قبل الحرب وبعدها وكيف نتأقلم مع الواقع الآن، مشيرًا إلى أن الفنان في غزة كأي مواطن فلسطيني يتدفق حب ومشاعر فمن الطبيعي أن يعبر عن شعبه وقضيته وبيته وهمه وحياته و واقعه، فلولا الفن والسينما والمسرح والإعلام ما علم عنا العالم شئ، فلا نملك سوى توضيح الرؤية للعالم من خلال الفن.
خارج سياق الحياة
و بعبارات حزينة تدمي القلب استطرد "نبيه"، قائلًا لدي أربعة أبناء، محمد الفتى المتفوق والذي كان لديه أحلام كبيرة ، و الآن مريض وطريح الفراش، أما ابني الأكبر أحمد، مصاب بفيروس الكبد الوبائي، وابني محمود نسي نفسه وانشغل بالبحث عن الحطب والماء لمساندة العائلة، و الصغير يوسف يحب الرسم ويرسم صور تعبر عن غزة و ما حدث لشعبها.
واختتم: إن لم نمت من الحرب فربما يتسبب التلوث للمياه والطعام في إنهاء حياتنا، فتحولت المنازل إلى ركام و امتلأت الشوارع بالجثث، إلى جانب التغيرات المناخية التي طرأت على النازحين، فنحن خارج سياق الحياة.
مهنا: أطلقنا مهرجان العودة السينمائي من الخيام بعد تدمير مقرنا في غزة
وفي ذلك السياق قال سعود مهنا، مخرج سينمائي ومؤسس ورئيس مهرجان العودة السينمائي الدولي ورئيس ملتقى الفيلم الفلسطيني: بكل صدق بدأنا بمشروع (من تحت الركام)، وهو مشروع لإنتاج أفلام وثائقية وروائية عن الحرب على غزة، وعن حياة النزوح والخيام فى ظل الدمار والقتل والإبادة الجماعية، وأنتجنا فيلم وثائقى اسمه (تحدى) وهو من إخراجى وزميلى المخرج يوسف خطاب، والذي يتحدث عن كيفية إطلاق مهرجان العودة السينمائي ونحن فى الخيام، بعد أن دمر الإحتلال الإسرائيلي مقر مهرجان العودة السينمائي فى مدينه غزة، وكيف نتواصل مع المخرجين من دول عديدة ونستقبل أفلامهم ونحن نفتقر لأسباب الحياه، فهناك صعوبة فى الحصول على الإنترنت والكهرباء، ووسائل المواصلات معدومة، فنحن نوضح من خلال الفيلم التحدى الذى نواجهه حتى نطلق المهرجان.
وأضاف "مهنا"، في تصريحات لـ "البوابة نيوز"، أخرجت فيلماً روائيًا قصيرًا باسم (يافا)، وهو يحكى قصة عائلة مهجرة فى خيام النزوح، نزح أبآئهم من يافا عام ١٩٤٨، وكيف يقضون يوم عيد الفطر في الخيام، يتذكرون شهدائهم فى هذه الحرب، موضحًا أن “فيلم يافا” يركز على أن الإنسان الفلسطينى مهما طالت به السنون لن ينسى المدينة التى طرد منها بقوة السلاح عام ١٩٤٨ و يحن للرجوع إليها ويؤكد على حق العودة دائما.
وذكر المخرج سعود، أن هناك العديد من التحديات التي واجهتهم أثناء تصوير الفيلم، فهو بإنتاج صفر فلا يوجد تمويل، وبعض الممثلين يسكنون مدينة غزة ، فلا يستطيعون القدوم إلى مكان التصوير، فالجيش الإسرائيلي قسم القطاع، وهذا ينطبق على بعض المصورين ومهندسي الإضاءة والصوت، إلى جانب قلة المواصلات والتي تعرقل الوصول إلى مواقع التصوير، مستكملًا “أحيانا نسير على أقدامنا لساعات طويلة، أو نركب عربات يجرها حمار، إلى جانب أن التواصل عبر الموبايل صعب للغاية والذي أثر على عملية التواصل مع طاقم العمل و أيضًا عدم وجود انترنت وكهرباء سبب شلل للطاقم أثناء التصوير”.
واستطرد: "أثناء التصوير فى المخيمات نحزن لسماع مئات القصص من النازحين، هناك من استشهدت معظم عائلته وهناك عائلات تفرقت ولا تستطيع التواصل مع بعضهم البعض، والحياة فى الخيام صعبة جدًا بدون ماء وكهرباء، يفترش الجميع الأرض، وسمعنا آلاف القصص التى تصلح أن تكون افلام، مشيرًا إلى أن السينما مهمة جدًا فى سرد الرواية الفلسطينية، و بالسينما نستطيع توصيل معاناتنا و إبداعاتنا و رسائلنا للعالم بكل صدق، فعرض الأفلام الفلسطينية الوطنية فى الفضائيات مهم جدًا، لكي تظل القضية الفلسطينية حاضرة فى وجدان الجميع، ومشاركة الأفلام الفلسطينية فى مهرجانات عربية ودولية بالغة الأهمية، لكى تكون رسائل واضحة بالصوت والصورة لكل الدول المشاركة بالمهرجان، خاصة حينما يفوز فيلم فلسطينى بجائزة يبقى فى دائرة الضوء، ويكون خير رسول لفلسطين بقضاياها العديدة.