تحل هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الأب "متي المسكين"، الذي يعد رمزاً كبيراً من رموز الكنيسة القبطية، كما أثار خلال حياته جدلاً كبيراً بعد أن رأى البعض أن هناك بعض مؤلفاته تحتوي على أخطائه عقائدية متفاوتة في درجاتها ووصل الأمر بأن الأنبا بيشوي وصف هذه الأخطاء هرطقة.
يوجد جثمان القمص متي المسكين في مغارة صخرية ضمن أسوار دير أبو مقار بُناءً على وصيته التي أوصى بها قبل وفاته بثلاث سنوات، كما أوصى وقتها أن لا يصلي عليه أحد من قيادات الكنيسة بل تقتصر الصلاة على جثمانه فقط من رهبان الدير.
تاريخ الأب متي المسكين
كان الأب متي المسكين قد ولد عام 1919 ودرس كلية الصيدلة، وبعد التخرج عين في أحد المستشفيات الحكومية وقبل دخوله للرهبنة كان يمتلك صيدلية في مدينة دمنهور بالبحيرة.
قرر الشاب يوسف إسكندر الذهاب إلى الدير بغرض الرهبنة عام ١٩٤٨ حيث ذهب إلى دير الأنبا صموئيل بالمنيا وتم رسمه قساً باسم "القس متى المسكين" على اسم قديس بالكنيسة الذي يعود للقرن الثامن الميلادي عام ١٩٥١ ليقضى ثلاث سنوات كراهب متوحد في مغارة تبعد 40 دقيقة عن دير الأنبا صموئيل بالمنيا، وبعد انقضاء تم ترقيته لدرجة القمصية، وتم تعيينه وكيلاً لبطريركية الأقباط الأرثوذكس عام ١٩٥٤ بالإسكندرية .
وبعد خمس سنوات تم عزله من الرهبنة والكهنوت بقرار من البابا كيرلس السادس، وبعد ذلك توجه القمص متى إلى صحراء وادي الريان هو ومن معه من الرهبان، وحفروا مغائر عاشوا بها لمدة تسع سنوات ، وكان بعض المعارف يرسلون لهم طعامًا كل شهرين على قوافل جمال.
وفي عام ١٩٦٩ أرسل البابا كيرلس السادس طلباً لمقابلة القمص متي المسكين لإجراء مصالحة وإعادته للرهبنة، وتم إلحاق القمص متي بدير الأنبا مقار بوادي النطرون والذي كان يشرف عليه في ذلك الوقت الأنبا ميخائيل مطران أسيوط .
وأنشأ بيتاً للمكرسين من الشباب الذين يرغبون في الخدمة دون الرهبنة، وكان مقره المؤقت في حدائق القبة ، وقد عمل و تعاون القمص متى المسكين مع الأنبا ميخائيل في مسئولية إعادة إعمار الدير وإعادة تخطيطه، وإدارة شئون الدير والرهبان والعمال والزراعة والإنتاج الحيواني.
ومع مرور الوقت منعت الكنيسة 48 كتابا له وأن بعض كتبه ترجمت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية ، كما أن الكنيسة منعت عرض كتبه في معرض الكتاب القبطي السنوي، إلا أن مطرانية سمالوط سمحت بعرضها في معرض الكتاب التابع للإيبارشية .
وتنحي الأب متي المسكين عام 2006 تارك خلفه جدل لم ينته حتي الآن والعديد من الكتب والعظات والمقالات الدينية.
مع النخبة
قال السياسي القبطي كمال سليمان عضو مجلس الشوري السابق في تصريحات لـ"البوابة نيوز"، كان الأب متي المسكين يعيش حياة الرهبنة كما يجب أن تكون فلم يكن مجرد قدوة بل مثالا للآباء الرهبان الأوائل، ولا ننسي أن الأب متي المسكين في فترة الرهبنة المبكرة قد ألف كتاب (حياة الصلاة الأرثوذوكسية) وكان هذا الكتاب بمثابة منارة أشرقت علي الكنيسة ، والجامعة .
وأضاف “ سليمان” بأن الأب متي المسكين قام بتوجية الآباء الرهبان لدراسة اللغة اليونانية، نظرا لتأصيل حياة الصلاة من كتابات الآباء التي انقطعت عن حياة الكنيسة لقرون طويلة ، وبالتالي تم ترجمة أقوال الآباء من مصادرها الاصلية وهذا بالإضافة للبعثات التي أرسلتها الكنيسة ولا ننسي كتب تفسير العهد الجديد للأب متي المسكين.
واستطرد “ سليمان ” كان للنهضة التي قام بها الأب متي المسكين في كافة المجالات تأثيرها العميق في حياة الكنيسة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وامتد هذا الدور من خلال ترجمات كتب الأب متي إلي كل أرجاء العالم.
وتابع “ سليمان ” : كما لا ننسي الدور الثقافي الذي لعبه الاب متي في النصف الأخير من القرن العشرين من خلال لقاءاته و حوارات ، مع مثقفي مصر وعلمائه، ولا ننسي اهتمام الاب متي المسكين بتعمير الصحراء و زراعة محاصيل أذهلت حتي رئيس الدولة في ذلك الحين حتي أنه تبرع للدير بمساحات شاسعة لزراعتها.
بينما قال المهندس إسحق حنا أمين عام الجمعية المصرية للتنوير في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز" إن بداية الرهبنة في مصر كانت من الناس البسطاء وغير المتعلمين، مثل الفلاحين والعمال، وهم أول من اتجهوا إلى الرهبنة والأديرة الرهبانية ، ثم جاء بعد ذلك الأب متى المسكين، وهو صيدلي، وشجع زملاءه المتعلمين، خريجي الجامعات، على الانضمام إلى طريق الرهبنة ، وهذا بالفعل ما حدث، حيث انضم شباب متعلم إلى الرهبنة بتشجيع من الأب متى المسكين.
وأضاف “ حنا ” بأنه كان هناك انقطاع في تراث الآباء الأوائل للكنيسة المصرية، لفترات طويلة بسبب تحول مصر إلى اللغة العربية وضعف استخدام اللغات الأخرى مثل اليونانية والقبطية التي كانت تكتب بها أدبيات هذا التراث المسيحي، وعندما بدأت حركة الترجمة والبحث في هذا التراث في القرنين الأخيرين، تم الاعتماد على ترجمات من مصادر أرثوذكسية أخرى كالكنائس اليونانية والأنطاكية والقسطنطينية، نظرًا لكون الكنيسة في القرون الأولى لم تكن منقسمة إلي طوائف، وقد لعب الأب متى المسكين دورًا كبيرًا في إحياء هذا التراث من خلال تشجيع الترجمات من اللغات الأصلية كاليونانية إلى العربية.
وتابع “ حنا ” : وبالتالي، تم الاعتماد على تفسيرات وشروح المعلمين المحدثين في الفترات التي انقطع فيها الوصول المباشر إلى تراث الآباء الأوائل، إلى أن تم استرداد هذا التراث من خلال الترجمات والبحوث الحديثة.
وكشف" حنا "عن رؤية الأب متي المسكين في تعمير الصحاري حول الدير الذي دشنه ، بإن الأب متى المسكين كان رجلًا علميا يفكر بطريقة علمية وينظر إلى الأمور بمنظور علمي. وقد انتهج هذا النهج في كل شيء، بما في ذلك فكرة الترجمة والمشاريع الإنتاجية التي نفذها في الدير، فقد رأى الأب متى أن تحسين دخل الدير وتعزيز اقتصاده من الأمور الضرورية لتوفير احتياجات الدير وتمويل بعثات علمية لأبنائه خارج مصر. لذلك عمل على إنشاء مشاريع إنتاجية، سواء في مجال الزراعة أو الحيوانات والدواجن، معتمدًا على أساليب علمية متطورة.
وأشار “ حنا ” إلي أن هذا النهج العلمي والمؤسسي في تنمية موارد الأديرة يعد من أهم إنجازات الأب متى المسكين، فقبل ذلك كان العمل في الأديرة يتسم بالضعف وافتقاره للأسس العلمية، واعتمد على العمل الفردي لكل شخص على حدة.
وتابع “حنا” : لذلك فقد تعلمت العديد من الأديرة من تجربة الأب متى وانتهجت أساليبه العلمية والمؤسسية في إدارة مواردها وتنميتها، مما أسهم في تطوير وازدهار هذه الأديرة.
وفي نفس السياق قال الباحث أمجد سمير، كان الأب متى المسكين أول من يقصد الرهبنة من الجامعيين وهذا كان له دور في جذب الشباب الجامعي الرهبنة وفي أن يؤسس لنهضة كنسية تعليمية تكريسية .
وأضاف “سمير” بأن الأب متي المسكين قد أسس هذا لإعادة التواصل مع الموروث الآبائي بعد انقطاع دام لقرون، وقد ذكر في مقدمة كتابه الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار "إن شغفنا الشديد بالتقليد الكنسي والتراث الأبوي الروحي هو ما دفعنا للإتجاه الرهباني نستعرض من خلاله الحياة المسيحية كما عرفتها الكنيسة القبطية في عصورها الأولى " وقد حرص على تأسيس مدرسة لترجمة التراث الآبائي وتثقيف رهبان دير أبو مقار من خلال مكتبة تضم أمهات الكتب وعمل كورسات لتعلم اللغات القديمة والحديثة وكذلك الدراسة في الجامعات اللاهوتية بالخارج وكان هو قدوة لهم وكتب عن معلمه الأستاذ يسى عبد المسيح:"...لا أنسى قط تلك الأوقات التي كنت تأتي فيها يوميا لكي تعلمني اللغة القبطية .." .
وتابع “ سمير” : الدور الثقافي اللاهوتي الذي لعبه الأب متى المسكين في النصف الأخير من القرن العشرين على الرغم من تراثه الضخم وكتاباته هناك بعض من إنتاجه يثير الجدل بين مؤيد ومعارض و كتب العديد من المقالات و المجلدات حول التراث الآبائي والتفسير والرهبنة وحرص على تأسيس مكتبة بالدير يمدها بأهم المراجع وكذلك مطبعة خاصة قامت بدور كبير في نشر الثقافة القبطية .
واستطرد “سمير ” ، أما عن دوره في تعمير الصحاري حول الدير الذي دشنه الأب متى المسكين وذلك للحفاظ عليها من المعتدين وكذلك للحفاظ على حرم الدير واستخدم الأساليب العلمية الحديثة في استزراع الصحراء وكذلك إجراء التجارب الزراعية وزراعة محاصيل وأشجار لم تكن معروفة فصار الدير رائدا في هذا المجال وفتح مجالاً للقضاء على البطالة وعمل الشباب من جميع الأطياف والديانات ومقدما إنتاجه الزراعي والحيواني لأشهر الفنادق والمطاعم.
وستظل شخصية الأب متى المسكين مثيرة للجدل وذلك لما يتناوله البعض من مؤيد ومعارض لفكره وأطروحاته، وتعاليمه اللاهوتية في بعض كتبه ومقالاته وقد ظهر في فترات حرجة من تاريخ الكنيسة ومازالت مدرسته الفكرية التى أسس لها في تلاميذه وقراءه ولعب دورا في تاريخ الكنيسة لا يمكن تجاهله.