على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى أنجز مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء.. عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟ عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».
خلال عام 2019، نشرت «البوابة نيوز» فصولاً من هذه الدراسة القيمة، ونعيد نشرها لتكون شاهدًا على عصور زاخرة فى عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.
تجربة قاسية كهذه لا بد أن تصنع وعيًا يدفع إلى الثورة والتمرد، ويعَلم القراءة غير التقليدية للأحداث والوقائع، لكن هذا لا يعنى امتلاك ثقافة نظرية قوامها المصطلحات التى يعرفها ويرددها المثقفون. يعود محمد من الحرب العبثية ليشرع فى بناء حياة جديدة على أطلال ما تبقى من الحياة القديمة.
شخصية فعالة مؤثرة ذات حضور متوهج فى «الأرض»، وأحد أبرز قادة الرأى الذين يحظون بالاحترام والتقدير فى القرية. جراء مقاومته ومعارضته للحكومة الانقلابية التى يقودها إسماعيل صدقى، يُفصل محمد من وظيفته كشيخ للخفراء.
حكاية الشيخ حسونة
يفقد محمد أبوسويلم وظيفته المرموقة، بمقاييس الواقع الريفى المصرى خلال المرحلة التاريخية، ثمنًا لموقفه الوطنى الشجاع، ويحتفظ بالروح الثورية التى لا تذبل على الرغم من الفقر والمعاناة وتعنت الحكومة غير الشعبية. المواعيد الجديدة الجائرة لدورة الرى، نموذج للقهر الذى تمارسه السلطة لخدمة مصالح كبار الملاك الزراعيين من رجالها المؤيدين لها، ويستدعى القرار تعليقًا عنيفًا ساخطًا يرى فيه محمد أنه حلقة من سلسلة المظالم التى لا تنتهي: «يا نهار أغبر يا ولاد.. خدوا منا مشيخة الخفر وسكتنا لهم... ورموا لنا الشيخ حسونة فى آخر الدنيا وسكتنا لهم.. وحجزوا على نص البلد وسكتنا لهم.. الله.. ويموتوا لنا الأرض من العطش كمان.. هو إحنا خلاص كده بقينا هفية.. هى البلد خلاص كده بقت كلها حريم. مافيش رجالة؟».
تزوير سافر صارخ للانتخابات، ثم تقليص عدد أيام دورة الرى، وصولا إلى انتزاع أراضى صغار الفلاحين لشق طريق الزراعية، انتصارًا للباشا الذى ينتمى إلى النظام الانقلابي: «هزأونا وسكتنا لهم ورفدونا من مشيخة الغفر وسكتنا لهم.. كسروا لنا السواقى وقطعوا الميه وسكتنا لهم.. ولسه يا عبد الهادى يا ما حانشوف طول ما احنا ساكتين».
يتخذ محمد أبو سويلم موقفًا واعيًا معارضًا ضد الحكومة التى لا تعبر عن الإرادة الشعبية، وتتفنن فى ممارسة القهر ضد صغار الفلاحين الذين تتدهور أحوالهم المعيشية ويكابدون الفقر ويقفون على حافة الجوع. ولأن العمدة الخبيث الداهية هو الرمز المحلى للسلطة المستبدة، يجاهر محمد بالإعلان عن عدائه، ويحمِّله مسئولية التلاعب بالفلاحين البسطاء لخدمة السادة وكبار الملاك من أصحاب النفوذ.
للعمدة مكانته وهيبته فى القرية، والهجوم العلنى العنيف على هذا النحو غير المعهود، فعل جرىء شجاع يثير دهشة السامعين، وهو من ناحية أخرى يستفز العمدة ويدفعه إلى الانتقام والثأر لكرامته المهدرة. يضع اسم المعارض الجسور فى قائمة المتهمين بقطع الجسر، ويعلق محمد أبوسويلم مهددًا:
«- حط اسمى فى اللى قطعوا الجسر؟! إلهى تنقطع رقبتك يا عمدة.. طب دانا أرضى كلها فى حوض الترعة يا ولاد.. يعنى يزور عليه؟ طب والله لأثبت عليه إنه بيزور وأحطه فى الحديد.. آه يا عمدة يا نجس.. أنا وانت والزمن طويل».
التنفيس عن الغضب
الكلمات الهجائية العنيفة، الأقرب إلى التنفيس عن الغضب جراء الشعور بالظلم، لا تحقق الانتصار العملى فى صراع لا ذرة فيه من التكافؤ، ذلك أن العمدة ينتمى إلى جبهة السلطة المسلحة بالشرطة والسجون والتعذيب، وهى سلطة فاسدة لا تتخلى عن رجالها الذين لا يسرى عليهم القانون ولا يقعون تحت طائلته: «كان الشيخ الشناوى عند العمدة فى الدوار يقرأ له راتب الصباح من القرآن.. واعترف العمدة أنه ضاق بإهانات محمد أبو سويلم له أمام أهل البلد.. فمحمد أبو سويلم لا يذكره إلا بكلمة النجس. ولهذا أبلغ اسمه مع الذين قطعوا الجسر ليؤدبه أحسن أدب!». ليس أسهل من تلفيق التهم للانتقام والثأر ورد الاعتبار، وما أكثر القضايا المعلقة التى يمكن الزج باسم محمد أبو سويلم فيها، دون نظر إلى معقولية التهمة ومصداقيتها. الهدف الذى يسعى إليه العمدة هو التأديب والردع، والموت نفسه لا يضع نهاية لكراهية محمد. الفلاح الساخط يرفض أن يؤول المنصب الشاغر بعد وفاة العمدة العجوز إلى واحد من أفراد أسرته، فهم يشبهونه بالضرورة ويتبعون سياسته العدوانية: «عايزين نبعد عن السلسال النجس ده..».
السؤال هنا: هل يملك محمد أبو سويلم من آليات القوة ما ينفذ به تهديده ووعيده؟ الأمور أكثر تعقيدًا من التنفيس عبر عبارات ملتهبة، والطرف الآخر فى الصراع هو الأقوى دائمًا والقادر على الحسم، مسلحًا بما يمتلكه من أدوات.. فى سجن المركز، يتعرض محمد لصنوف شتى من التعذيب والإهانة، وبالقوة التى لا يملك إزاءها شيئا: «أزالوا له شاربه الغليظ القديم».
يدفع الرجل الشجاع ثمنًا فادحًا لاحتفاظه بالكبرياء والكرامة، ويقيده الجنود بالحبال ليحلقوا له شاربه، رمز الرجولة التى يعتز بها، ولمزيد من الإذلال يطلب منه المأمور أن يقول إنه امرأة: «لقد ظل ينظر إلى المأمور إذ ذاك والشرر يتطاير من عينيه.. ودون أن يقول كلمة، جمع كل لعابه وحنقه وكبريائه المهدرة، وقذف بها فى بصقة كبيرة على وجه المأمور.
إنه لا يذكر ما حدث له بعد ذلك، فقد تشابكت أمام عينيه السياط والعصى والأحذية كلها تهوى فوق بدنه.. وأحس وهو ملقى على ظهره بحذاء المأمور يخبط رأسه ووجهه.. ثم غاب عن الدنيا».
ألوان من العذاب
البصقة التنفيسية الاحتجاجية تُواجه بألوان من العذاب تغيب به عن الوعى، وتبرهن عمليًا على غياب التكافؤ والندية فى الصراع الذى يدور بين فرد أعزل وسلطة قوية غاشمة.. يغادر السجن مسكونًا بالانكسار والشعور بالقهر: «وعندما حاولت امرأته أن تهون عليه، واقتربت منه ذات ليلة لتدلك أورام بدنه المحتقن من كثرة الضرب، نحاها بضيق، وهو يهمس بإذعان بكلمات من موال حزين:
روح يا زمان روح وخلينا بغلابتنا
إحنا السبوعة وجت الأيام غلبتنا..
ثم أخذ يردد فى حسرة أبياتًا قالها أبو زيد الهلالى، عندما هزمه دياب بن غانم، فأحنت امرأته رأسها، وتصعبت، وزفرت».
لا يمكن القول إن محمد أبو سويلم جبان أو متخاذل، لكنه محدود القوة والقدرة فى مواجهة السلطة المسلحة بأدوات القهر والقمع والإذلال. الانكسار شعور مبرر، والتقوقع منطقى بعد الإهانة القاسية التى توجع الروح والجسد.
لا شك أن عبد الرحمن الشرقاوى يبالغ كثيرًا، وهو يرصد تفكير الفلاح البسيط الذى يتكئ على منطق لا يليق إلا بمثقف ذى وعى نظرى، لا يُتاح امتلاكه للعاديين من الناس: "لقد ضربوه فى السجن كما لم يتخيل أبدًا.. ولو أنه كان حصانًا عند الحكومة لكانوا أكثر إشفاقًا عليه".
إن المأمور الذى أمر بضربهم وبتعذيبهم لا يستطيع أن يقف فى شارع المدينة ويفعل مثل هذا بحيوان.. بكلب أو بقط.. سيخجل من الأطفال والنساء، ويخاف من امتعاض الأصدقاء!
وربما طالبت بحبسه الجمعيات العديدة التى تدعو إلى الرفق بالحيوان.. ولن يستطيع على أية حال أن ينظر فى وجوه أولاده الصغار.. أو زوجته.. بعد أن يعذب حيوانًا ما على هذا النحو!!
ومع ذلك فهذا الرجل نفسه -من يدري؟- ربما كان يروى بفخار لامرأته أمام الصغار كل ما صنعه بالرجال..
وربما مارست زوجته -وهى تسمع- إحساسًا متفوقًا بالامتياز والكبرياء».
مثل هذا النمط من التفكير لا يتوافق مع شخصية فلاح بسيط محدود التعليم والوعى، فمن أين له العلم بجمعيات الرفق بالحيوان؟ وكيف يصل به الخيال إلى تصور المشاعر التى قد تنتاب المأمور وزوجه؟ مفردات لغة التفكير تتجاوزه ولا تليق إلا بالروائى نفسه، ذلك أن ثورية الرجل مستمدة من الخبرات والتجارب العملية، ولا شأن لها بالكتب والنظريات.
تجربة حرب طاحنة
قبل سنوات طوال من الأحداث التى تستعرضها الرواية، يخوض محمد أبو سويلم تجربة مريرة فى الحرب العالمية الأولى، فهو واحد من آلاف الفلاحين المسخرين بلا إرادة فى حرب طاحنة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. يحارب فى بلاد الشام، ويزحف فوق الثلج والطين، ولا يعرف ورفاقه سببًا مقنعًا وجيهًا للموت فى سبيل اللاشيء: «ولما كنا بنستريح ونتلفت لبعض نسأل بعض: احنا هنا بنعمل إيه يا ولاد؟ احنا ما لنا ومال دا كله؟.. ما حدش يعرف يرد.. بنحارب مين؟ بنحارب ليه.. ليه الحرابة دي؟! ما حدش يعرف.. يقولوا لنا العدو.. عدو مين؟ وعدو ليه؟ ولا حد منا عارف.. كان الرصاص يفوت من جنبنا ومن فوق دماغنا.. وألاقى اللى بيسألنى وقع ميت بالرصاص من غير ما يحط منطق! يا سلام يا إخواتى على دى أيام.. الله لا عاد يعودها، ولا يكسب اللى لمونا ورمونا هناك.. ما حدش رجع من النواحى دى غيري! ولسه هناك الجتت مرمية عالجبال».
تجربة قاسية كهذه لا بد أن تصنع وعيًا يدفع إلى الثورة والتمرد، ويعَلم القراءة غير التقليدية للأحداث والوقائع، لكن هذا لا يعنى امتلاك ثقافة نظرية قوامها المصطلحات التى يعرفها ويرددها المثقفون. يعود محمد من الحرب العبثية ليشرع فى بناء حياة جديدة على أطلال ما تبقى من الحياة القديمة: «عاد فوجد ولدين من أولاده قد أرعشتهما الحمى أيامًا قليلة.. ونزفا مع البول دماء وصديدًا! ثم.. ماتا.. واحدًا بعد الآخر..
لم يمت فى الأيام الطويلة التى عاشها يزحف على بطنه فى الثلج والوحل تحت الغازات السامة، وبين الرصاص..
ولكنه منذ عاد إلى القرية بنى بالفعل حياته الجديدة وخلف بنتًا جديدة هى «وصيفة»، وجعل من الوحل والموت نفسه تجربة يفيد منها».
يعود محمد ليشارك مع جموع الفلاحين فى ثورة ١٩١٩، ويسعى قدر الاستطاعة لصناعة حياة مستقرة مع زوجه وابنتيه، لكنه بالضرورة فلاح محافظ يعتز بالتقاليد الاجتماعية الموروثة ويقدسها ويحافظ عليها. يتجلى ذلك بوضوح عند زفاف ابنته الكبرى؛ حيث الحرص على التشبث بالطقس الذى يعلى من شأن غشاء البكارة علامة على الشرف، وإذ يبدى عريس ابنته تحفظًا ويطرد الداية وشهود الدخلة: «دخل محمد أبو سويلم غاضبًا إلى القاعة، وضرب العريس بالكف على صدغه، وطلب منه أن يدخل على ابنته العروس، كما يدخل كل العرسان على البنات الشريفات فى القرية».
فى السياق نفسه، يرفض محمد إسراف ابنته وصيفة فى مخالطة الضائعة خضرة سيئة السمعة. يستفزه ما يصل إلى مسامعه من مزاح حافل بالكلمات القبيحة المفضوحة، وعندئذ لا يتردد فى ضرب ابنته. لا شك فى حبه لوصيفة وتسامحه مع الكثير مما تفعله، مثل ارتداء الجلباب الملون، لكن الاقتراب الزائد من خضرة لا يروقه، ذلك أن النزعة الثورية على الصعيد السياسى لا تعنى التفريط فى منظومة القيم الاجتماعية الموروثة.
حب واحترام متبادل
من ناحية أخرى، تتسم علاقة محمد أبوسويلم مع أهالى القرية بالحب والمودة والاحترام المتبادل، ويحتل الشيخ حسونة فى نفسه مكانة خاصة ترتبط بالتاريخ الحافل الممتد الذى يجمعهما. على صخرة الحب الذى يكنه للشيخ، تتحطم محاولة الدجال شعبان للوقيعة بينهما كما يخطط العمدة. استجابة الشيخ لأكاذيب شعبان تستدعى عتابًا عاطفيًا يخالطه الحزن من محمد أبو سويلم: «أش حال لو ماكنتش أنت اللى قلت لنا فى الأول إنك مقبوض من الواد شعبان ومش مستريح له؟ أش حال لو ماكنتش أنت اللى نبهتنا من الأول على شعبان ده؟ بقى أنا أقول عليك موالس مع الحكومة؟! يا نهار أزرق يا شيخ حسونة.. ويزلف لسانك كده دوغرى وتهب فيا؟ هو اللى بينا إيه يا أولاد؟! عيش وطوب؟ هو الدم ده ميه؟ هيه العشرة دى إيه؟ دا احنا إخوات يا حسونة وأكثر من الإخوات كمان، يا وقعة غبرا؟! يا شيخ دا أنا فاكر إنك أنت اللى حاتمشى ورايا وتاخد العزا فيا وتشوف عيالى من بعدي».
لا تتأثر العلاقة المتينة بوشايات شعبان المغرضة، لكن التحالف الذى ينخرط فيه محمد أبوسويلم لا ينجح فى مواجهة الحكومة التى تنتزع أرضه فيسقط فى هاوية الضياع، وهو ما يعبر عنه عبد الهادى فى قوله: «يا ولداه يا با محمد أبو سويلم! طب دا مش طالع له السنة دى لا درة ولا قطن! الزراعية واخداه كله.. ويعيش منين دا يا أخواتي؟ قال حا ياخد تعويض! وعلى ما ياخذ تعويض ياكل منين؟ وحا يعمل إيه بفلوس التعويض؟ حا يتاجر! واللا يعنى حا يتاجر؟ حا يعمل إيه بالفلوس بعد ما خدوا الأرض؟ حا يشترى أرض تانية.. ومين فى البلد يبيع أرض؟!».
لا يقصَّر محمد أبوسويلم فى المقاومة الباسلة حتى تطوله الهزيمة المنطقية لغياب التكافؤ والندية مع الخصوم، ولا شيء يبدو واضحا عن مستقبله بعد ضياع الأرض، إلا ما يتنبأ به أخو الراوى مع نهاية الرواية: «الأرض التى بقيت لمحمد أبو سويلم لن تصلح للزراعة بعد، ومن الممكن أن يبنى عليها ماكينة بمبلغ التعويض مشتركًا مع كساب، ويستطيع من إيراد الماكينة أن يؤجر أرضًا أخرى أكبر من التى كان يزرعها».
هل يتحول محمد أبوسويلم من فلاح صاحب أرض إلى شريك فى ملكية ماكينة الطحين؟ هل يؤجر أرضًا بعد أن تتبخر ملكيته الصغيرة مقابل تعويض مادى لا يغنى عنه شيئًا؟ سؤالان لا تتسع الرواية للإجابة عنهما.