فتحى غانم.. «يوسف عبدالحميد السيوفي» فى «الرجل الذى فقد ظله»
سيرة حياة حافلة بالأحداث المثيرة المتنافرة على الصعيدين الذاتى والموضوعى
يبزغ نجمه الصحفى فى النصف الثانى من الأربعينيات ويزداد تألقًا بعد ثورة يوليو بعد الارتباط بعلاقات وثيقة مع قادتها
يتنقل ببساطة من خندق إلى خندق ومن ولاء إلى ولاء.. إنه مع السلطة مهما تتغير وتتبدل دون التمسك بثوابت سياسية أو فكرية
محمد ناجى أحد ضحايا شخص انتهازى رغم أنه الأستاذ والمعلم الذى يقوده إلى التألق فى عالم الصحافة
على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى أنجز مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء.. عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟ عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».
خلال عام 2019، نشرت «البوابة» فصولًا من هذه الدراسة القيمة، ونعيد نشرها لتكون شاهدًا على عصور زاخرة فى عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.
الشخصية المحورية فى رباعية «الرجل الذى فقد ظله»، يولد فى السادس من سبتمبر سنة ١٩٢٢، ويبدأ فى سرد رؤيته وتقديم شهادته، الجزء الرابع والأخير من الرواية، يوم التاسع من أكتوبر سنة ١٩٥٦، وبين هذين التاريخين تتشكل سيرة حياته الحافلة بالأحداث المثيرة المتنافرة، على الصعيدين الذاتى والموضوعي.
الأب عبدالحميد السويفى، مدرس متوسط الحال، والأم التى ترحل مبكرا تترك فى أعماقه آثارا مؤلمة تتجاوز الشعور باليتم، ولا يمكن نسيانها. الحصول على ليسانس الحقوق بتقدير «مقبول» لا يتيح له فرصة العمل فى النيابة، ومن هنا اتجاهه إلى الصحافة، يلتحق بجريدة «الأيام»، ويبدأ رحلة الصعود إلى القمة، وصولًا إلى رئاسة التحرير خلفا لأستاذه محمد ناجي.
يبزغ نجمه الصحفى فى النصف الثانى من الأربعينيات، ويزداد تألقا بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، حيث الارتباط بعلاقات وثيقة مع قادتها، ولا يجد صعوبة تُذكر فى الانتقال من خندق إلى خندق، ومن ولاء إلى ولاء، إنه مع السلطة مهما تتغير وتتبدل، ومع كل عهد يسود دون التمسك بثوابت سياسية أو فكرية. طموحه ذاتى خالص، قوامه المصلحة الشخصية، ومهارته المهنية موظفة فى خدمة من يديرون المؤسسة التى يعمل فى إطارها، وقدرته غير مسبوقة على التلون والدفاع عما يُطالب بالدفاع عنه. فى هذا السياق، ينتقل يوسف بلا عناء من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن تجميل حياة الباشوات إلى الهتاف بشعارات الثورة.
الأجزاء الثلاثة الأولى من الرواية بمثابة التمهيد الطويل الضرورى متقن البناء للجزء الرابع، وفيه تنتقل الراية إلى يوسف ليحكي، فى الأجزاء الأولى، تُسرد الأحداث من منظور مبروكة وسامية سامى ومحمد ناجي، ولكل منهم دوره الخطير المؤثر فى مسيرة يوسف، وكلهم أيضا من ضحاياه.
حكاية مبروكة
مبروكة زوجة وأرملة أبيه وأم أخيه غير الشقيق إبراهيم، وسامية سامى حبيبته التى تعتزل التمثيل السينمائى وتتهيأ للزواج منه، أما الصحفى الكبير محمد ناجى فهو أستاذه الذى يعلمه الصحافة، يتلقى ثلاثتهم ضربات صاعقة قاسية من الصحفى الذى يبدو بريئا طيبا ضعيفا مسالما حسن النية، وفى حكاياتهم تتعدد التفاصيل وتتنوع الأحداث، ويبقى يوسف عبدالحميد السويفى بمثابة المشترك الراسخ، بكل ما فيه من خسة ودناءة وانتهازية ووصولية.
مبروكة، ذات الأصول الريفية الفقيرة، تبدأ حياتها العملية طفلة تعمل خادمة فى منزل حسن بك راتب، أحد الأقرباء البعيدين لوالد يوسف، وفى منزل مخدومها تقيم فى مراهقتها علاقة مع ابنه الشاب مدحت، قبل أن تنتقل إلى شقة عبدالحميد أفندى خادمة، ترتقى بجسدها إلى الزواج من المدرس العجوز مدمن الشطرنج، والأقرب فى سلوكه إلى الأطفال، يعرف يوسف الكثير عن تفاصيل العلاقة بين زوجة أبيه وصديقه مدحت، وهو يشتهيها بقدر ما يخاف الاقتراب منها، من زيجة عبدالحميد غير المتكافئة، يولد إبراهيم، لكن الصحفى الأنانى الانتهازى يتنكر لأخيه وزوجة أبيه بعد موت الأب، وتصل مبروكة إلى احتراف الدعارة بعد حريق القاهرة، وتعيش حياة الضياع التى لا تنشغل فيها إلا بكراهية من يقودها بسلبيته وتخاذله إلى هاوية السقوط: «أتمنى موته موتا بطيئا يتعذب فيه، أتمنى لو فتحت بطنه بسكين، ومددت يدى فى جرحه وانتزعت كبده ونهشتها بأسناني، أتمنى لو دفعت أظافرى فى عينيه وفقأتهما، لو شربت من دمه، أحيانا أسائل نفسى كيف وصلت إلى هذا الحقد، وما هى آخرته. إنه يكتم أنفاسى ويلاحقنى ليل نهار، حتى وأنا أنظر إلى وجه إبراهيم، تختفى صورته، وأرى وجه يوسف، وأود لو قمت وحطمت ضلوعه».
لا ينبع حقد مبروكة من فراغ، ذلك أن يوسف كان قادرا على انتشالها من المصير التعيس الذى تؤول إليه، لكنه يدير ظهره لها ولأخيه، ولا يحرك ساكنا وهو يعرف أنها تقيم مع صديقه الرسام الشيوعى شوقى محمود، وغاية ما يفعله عندما تستغيث به أن يمنح شقيقه جنيها واحدا كأنه شحاذ، وكان راتبه وقتها يزيد على مائتى جنيه، أما نفوذه فقادر على تقديم دعم بلا حدود.
من ناحية أخرى، لا يتورع يوسف عن المتاجرة الرخيصة بسقوط مبروكة، ويستثمر مأساتها للاقتراب من قادة العهد الجديد، مبرهنا من خلالها على أنه ضحية مثلها لمفاسد وشرور العهد الملكى الموصوف بالبائد: «أنا شهيد، خرجت من الفقر، تلطخت بالعار، أنا ابن هذا الشعب، الذى قاسى وعانى الذل».
مبروكة عاهرة محترفة تبيع جسدها لمن يدفع الثمن البخس، والصحفى الشهير يحترف الدعارة السياسية والفكرية، ويبيع قلمه بالثمن الباهظ.
مرارة سامية
سامية سامى ضحية ثانية ليوسف السويفي، فهى تحبه وتتوهم أنه يحبها، ومن أجله تضحى بفرصة البطولة السينمائية، لكنه يخذلها ليلة الزفاف، ويسافر فى مهمة صحفية ليتابع انقلاب حسنى الزعيم فى سوريا.
لا تخفى سامية مرارتها وكراهيتها، ولا شك أن سلوكه المشين يبرر ما تقوله كاشفة عن موقفها السلبي: «من أجله تركت فرصة العمر، ورفضت دور البطولة، أما هو فما كادت تبرق أمامه الفرصة حتى رفسنى بقدمه وتركنى أتدحرج وأنحدر، ومضى هو يرتفع ويرتفع.. وحده».
قد تكون سامية ساذجة بريئة، وقد يكون يوسف مخادعا مراوغا، لكن الثابت الراسخ الذى لا يحتمل الشك أنه صانع مأساتها، والشبح الذى يطاردها ويعكر صفو حياتها، ولا تستطيع أن تتخلص من الذكريات الكابوسية حتى بعد زواجها من أستاذه العجوز محمد ناجي.
يتنكر يوسف لمبروكة لأنها بفقرها والبؤس الذى يهيمن على حياتها ستجذبه بالضرورة إلى دائرة يريد الإفلات منها، ويتكرر موقفه الانتهازى مع سامية لأن الاقتران بممثلة سينمائية يسيء إليه، ويتحول إلى سلاح يشهره الخصوم والأعداء السياسيون للتشهير به وتشويه مواقفه.
يختفى يوسف قبل ساعات من الزواج، وتطالع سامية صورته فى الجريدة، وقد كُتب تحتها فى برواز يفقأ العين: «سيطير صباح اليوم يوسف عبدالحميد، نائب رئيس تحرير الأيام إلى سوريا، لمتابعة قراء الأيام بأنباء انقلاب حسنى الزعيم».
يؤثر يوسف أن يتركها ويراود الصعود إلى قمة المجد المهني، ثم يعود ليعتذر ويبدى الندم ويطلب الغفران، قبل أن يتنكر لها من جديد لاهثا وراء مقعد رئيس التحرير.
حياة سامية حافلة بالكثير من المآسى والنكبات، وفى غرفة تذكاراتها السوداء وقائع كابوسية شتى سابقة لوجود يوسف فى حياتها، لكن الصحفى الانتهازى المخادع هو الجرح الذى لا يندمل، والإهانة التى لا تُغتفر، والإساءة التى لا تُنسى، والغدر الموجع الذى يعيد تشكيل مسار الشابة الجميلة التى تراود حياة مستقرة معه، فإذا به يصفعها بتخاذله وأنانيته البغيضة واستعداده الدائم لأن يبيع أى وكل شيء فى سبيل مصلحته الشخصية وطموح الصعود.
محمد ناجى هو الضحية الثالثة ليوسف، على الرغم من أنه الأستاذ والمعلم الذى يقوده إلى التألق فى عالم الصحافة، ثم تتغير الموازين وتتبدل قواعد اللعبة.
يبدأ ناجى حكايته بالإعلان عن الإقرار بهزيمته فى الصراع مع يوسف: «تغير كل شيء. أخذ مكانى ذلك الصعلوك العبقرى فى النفاق، أستاذ النفاق، يوسف عبدالحميد السويفي، شيء مضحك يثير الرثاء، هذا الولد أصبح أهم وأخطر مني».
محمد ناجى ليس ملاكا مثاليا يعلن هزيمته أمام شيطان رجيم، فهو شرير مراوغ مناور قادر على التعامل بقوانين الغاب التى يتقن تطبيقها، لكن التلميذ يتفوق على الأستاذ ويزيحه لينفرد بالقمة. قبل ثورة يوليو، ينجح يوسف فى الاستحواذ على عقل ممول الجريدة شهدى باشا، راضيا بالتحول إلى أداة انتقام فى يد المليونير الذى لا يملك قلبا، وبعد الثورة التى تتغير معها خريطة الحياة السياسية والاجتماعية، يصبح يوسف مقربا من رجال العهد الجديد، وكان على ناجى أن يعيش فى حمايته، قانعا برعاية شريرة من الصحفى الذى فقد ظله.
ينتمى ناجى ويوسف إلى مدرسة واحدة، ولم تكن مراهنة الصحفى الكبير على الشاب الواعد دليلا على السذاجة، فهو يقرأ حياته جيدا، ويتوهم أن تلميذه سيبقى مطيعا تابعا غير قادر على الإفلات والتمرد: «عندما علمت بحكاية مبروكة أشفقت عليه وفرحت به، ظننت أنه ضعيف، مجروح. زوجة أبيه عشيقة زميل له، وهو لا يقوى على فعل شيء. جبان. ذليل. أستطيع أن أفعل به ما أشاء. يصلح لأن يكون خادما لي، يمكننى أن أسيطر عليه، أستغل ضعفه. كلما فكرت فى مصيبته قلت لنفسى هذا هو الرجل الذى أجعله يكبر دون أن أخشاه، هذا هو الذى سيظل ذليلا إلى الأبد، لن يرفع عينيه. تبنيته، لعبة أصنعها وأحركها كما أشاء، مخلوق حقير يستمد سلطانه مني. كنت مغفلا».
المغفل الساذج
كان ناجى مغفلا ساذجا بحق، لأنه لم يصل إلى أعماق تلميذه ذى الوجه البريء والسلوك الظاهرى المغاير لما يعتمل فى أعماقه. يحاول ناجى أن يثأر معتمدا على أسلحته التقليدية البالية، وتغيب عنه حقيقة إن الأسلحة الانتهازية تتطور، فلا يبقى أمامه إلا أن يموت.
المليونير شهدى باشا ضحية رابعة ليوسف، وقد لعب الرجل دورا بارزا فى صعود الصحفى الشاب، ثم ينال نصيبه من التنكيل بعد أن تتغير موازين القوى.
لم يكن يوسف فى حاجة إلى وقت طويل لاكتشاف أن خدمة مصالح الباشا، عبر أشكال التحرير الصحفى المتنوعة، هى هدف الصحيفة التى يملكها شهدى ولا يتسع وقته للإشراف اليومى المباشر على شئونها. الصحيفة جزء من إمبراطوريته المتشعبة، ورئيس التحرير هو المسئول عن تنفيذ إرادته. محمد ناجى مفيد فى مرحلة معينة، أما يوسف فهو المؤهل للقيادة بعد الحرب العالمية الثانية وما يترتب عليها من متغيرات. حماس شهدى ليوسف ليس مجرد رغبة فى الانتقام من ناجى عشيق زوجه ثريا، لكنه أيضا بحث عن الإفادة من قدرته على التعامل مع واقع جديد تعصف به تحولات جذرية تهدد مصالحه.
ينتهى العهد كله مع ثورة يوليو، وينتقل ولاء يوسف من «الفرد» إلى «السلطة»، وتبقى مفردات التعبير عن الانتهازية بلا تغيير. تتبدل أوراق اللعب، ولا يختلف منهج اللعبة. يوسف هو الأقوى، وشهدى تابع يلتمس العون: «يتوسل إلى فى المساء أن أفهم نظرياته الاقتصادية لأبلغها للمسئولين. أهز رأسي، وأنفث الدخان فى وجهه، وأضحك، وأطمئنه، وأنا أعلم بقرار تأميم شركته. إنه كلب، لا أكثر من كلب، أراد أن يستغلني،أراد أن يحولنى إلى أداة لبسط نفوذه وارتكاب جرائمه. كان يظن أنى محمد ناجى آخر.. هؤلاء الرأسماليون يجب القضاء عليهم واحدا بعد واحد».
ما يقوله يوسف كذب صريح. إذا كان شهدى كلبا، فأى شيء يكون يوسف؟ هل ينكر الصحفى «الثوري» أنه فى جوهره عبد ذليل؟ الشعارات البراقة لا تخفى حقيقته، ولا يمكن أن تؤثر إلا على السذج من ضعيفى الذاكرة. لا تتغير فكرة العبودية، والولاء الذى يعلنه للثورة وتوجهاتها ليس إلا امتدادا للتبعية التى كان يباهى بها من قبل لناجى وشهدي، وهو قادر على أن يتحول بولائه لكل من يحكم ويتحكم.
ينفث يوسف دخان السيجار فى وجه الباشا، فهل ينسى قصة السيجار فى حياته؟ فى اللقاء الأول بينهما، بعد انتظار طويل للمقابلة، يشير شهدى إلى المكتب فيهرول يوسف ليقدم له السيجار، وفى اللقاء الثانى يقدم شهدى للتابع الجديد سيجارا مما يدخنه، فكأنه يعلن بهبته هذه قبول أوراق اعتماده خادما فى بلاطه.
كثيرون هم ضحايا يوسف عبدالحميد السويفي، ويوسف نفسه ضحية لاختياراته وللمناخ الذى يعيش فيه. يستطيع أن يلتمس الأعذار بالهزائم التى تطوله والجراح التى ترهقه: الطفولة المعقمة الباردة، موت الأم المبكر ومرارة اليتم، صدمة الحب الأول الفاشل مع سعاد راتب، زواج أبيه من خادم كان صديقه المقرب يعبث فى جسدها، توحش المجتمع الذى يشبه طاحونة هائلة لا ترحم من يقفون فى طريقها؛ لكن هذه الأعذار جميعا لا تنفى أنه شرير من طراز فريد، وأخطر ما فى شره أنه لا يعتمد على الشائع المنتشر من أسلحة الأشرار التقليديين.
قد يكون يوسف شيطانا غير تقليدى فى براعته، وبلا شبيه فى أساليبه المبتكرة، وقد يكون طفلا شريرا يخدع الجميع بطفولته، لكن اليقين الراسخ أنه شخصية إنسانية متعددة الأبعاد، يبدع فتحى غانم فى تقديم ملامحها بلا تشنج أو تحامل، ولا يتورط فى إدانته عبر الخطاب المباشر الفج الزاعق. من هنا تألقه وتفرده، فلا يملك من يضيقون بسلوكه إلا التعاطف مع أزمته بالغة التعقيد.
يوحى ظاهر يوسف بالطيبة والبراءة، وتنم أسارير وجهه الطفولى عن البساطة والسذاجة، لكنه يدمن الإطاحة بكل من حوله، ولا يتورع عن إلحاق الأذى والضرر بصديقيه المقربين شوقى محمود وسعد زغلول عبدالجواد، والمثير للدهشة أنه يرتكب جرائمه فى براءة من لا يفعل شيئا.