الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

إبداع|"الموعد الأخير".. قصة لـنور الهدى فؤاد

اللوحة للفنان حسن
اللوحة للفنان حسن الشرق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

جلس محسن على مسطبة المنزل التماسا لنسيم الليل، وبجواره أخته ثريا التي كانت تقزقز اللب من الكيس وتضع القشر في الطبق! بينما تشاهد التليفزيون الذي يتردد صدى صوته في تلك الحارة الصغيرة الريفية، كان المشهد من مسلسل هندي عاطفي، حيث كان البطل يحاول إقناع حبيبته بالعدول عن قرار السفر بعيدا، وبينما انتهت الحلقة بهروب الحبيبة مسرعة من أمام البطل، أخرج محسن سيجارته الكليوباترا وأشعلها.

قال: "عارفه شفت مين امبارح يا بت يا ثريا؟" 

قالت: "مين يا خويا؟ أنت مش كنت في المركز امبارح عشان تشوف فواتير الكهرباء اللي جت بألفين جنيه؟" 

فرد: "ايوه مانا رحت اتخانقت معاهم وطلع في غلط من عندهم، بس واني راجع ببص لقيت مين جنبي في العربية.. فاطنة بنت ابو عوف.. فاكراها".

-"أيوه جارتنا بنت ابو عوف اللي كانوا ساكنين في اول بيت الي هناك داهوه"

="آيواه.. زي ماهي يابت يا ثريا زي البدر المنور ولا كنو الزمن فات عليها يوم واحد.. سلمت عليها عرفتني على طول".

-"معقول عرفتك دي بقت هانم عربيات ايه وصيغة ايه وبقالها مسافرة مع جوزها بلد اجنبية كده مش فاكرة اسمها ييجي 20 سنة وزيادة" 

="طبعا عرفتني.. انتي نسيتي زمان ولا ايه؟ هو اخوكي يتنسي يابت".

-"ههههه طب يااخويا متتنفخش كده ما انت الي سبتها وخطبت ضاحية وانت عارف انها كانت بتحبك".

=" فضلت طول الطريق احكيلها عن الحارة ومين مات ومين اتجوز مين وهي حكيتلي عن عيالها وجوزها الدكتور وبيتهم الي في مصر.. وافتكرنا لعب الدرة والمرة الي ذقتوها وقعتوها في الترعة انتي والبنات وعمك الشيخ عادل المجنون وهو بيرمي الواد سامي بقوالح الدرة الوالعة عشان 5 نمر نقصهم في الشهادة.

جلسا يضحكان حتى كادت عيناهما تدمعان. ثم قالت ثريا: "والله كانت أيام حلوة".

يستكمل محسن: "وفضلنا نضحك طول الطريق.. ياسلام ع الزمن.. هي طول عمرها جدعة ومكنش في زي أدبها في الحارة كلتها" 

-"عشان ايه يعني.. كانت طالعة فيها وهي مقشفة ومحدش من شباب الحتة كان معبرها".

="هي مين دي الي مكنش حد معبرها.. اسكتي مانتي كنتي ملمومة على منى وعارفة الي كانو ماشيين مع نص شباب البلد.. ولا عمرها قابلت واحد ولا راحت مواعيد م الي كنتو بتروحوها".

وهنا، بدأ محسن يسعل، تجاهلت ثريا سعاله وأكملت حديثها: "فشرت... ده أنا كانوا بيتخانقوا عليا.. الواد ابن سعيد أفندي وابن عمه ضربوا بعض في مرة.. وبعدين أنا اتجوزت عبده اللي قعدنا نحب بعض 4 سنين.. هي بقى النحنحة الخرسة دي عملت لها ايه؟"

وهنا، بدأ سعال محسن يعلو ويشتد ووضع يده على صدره ثم قال: "قومي هاتي كوباية مية"؛ فقامت ثريا وجلبت الكوب مسرعة، فالتقطته محسن من يدها وتجرعه دفعة واحدة؛ ثم قال: "نفسي مخنوق مش عارف ليه".

-"من سيرة الحبايب يا أبو محمد".

اللوحة للفنان حسن الشرق

يسعل محسن من جديد ثم أشار إلى الغرفة التي ترقد فيها زوجته نائمة في عمق، وقال: "بذمتك مش كانت أحسن من البومة اللي نايمة جوه دي". ضحكت ثريا وهمست بمرح: "بلاش أحسن البومة تسمعك"، وتجاهلت سعال محسن المستمر وهي تستكمل: "البت فاطنة برضه كانت حلوة الحق يعني وكان عليها شعر وكحكة عالية كده تقولش 2 كيلو.. الا مقولتلهاش تبقى تيجي تزورنا ليه؟" 

محسن: "قلت لها والله ابقى تعالي شوفي ثريا والعيال والبيت اتغير ووضبناه ولازم تيجي تنورينا"، يسعل حتى يحمر وجهه بشده ولكنه أكمل: "ونزلت معاها واتحايلت عليها اشيلها الشنطة وأوصلها البيت ولا أشربها حاجة ساقعة ما رضيتش أبدا.. فضلت معاها لحد ما جه توك توك وركبتها ومشيت". 

كانت الكحة تزداد سوء بينما يحاول محسن التقاط نفسه بصعوبة وصوت عالي. هنا، بدأ ثريا تدرك خطورة الوضع، هرعت نحوه قائلة: "الله الله.. في إيه؟ مالك؟"، ثم تنزل من البسطة وتنادي بصوت عالي: "يا محمد يا محمد.. تعالي بسرعة أجري". جاء الفتى مسرعا فقالت: "الحق ابوك مش عارفة ماله". صعدا المسطبة، وجاءت ضاحية تجري بعد استيقاظها على صوت نداء ثريا وزوجها الذي يتعالى سعاله، صرخت: "في إيه يا ثريا؟ مالك يا محسن". كانت تمسح على صدره ووجهه يحمر بشدة، وصوت التقاط أنفاسه العالي، فقط استطاع أن يقول: "خدوني على الدكتور عبد الله".

قفز محمد وهرع ليجلب توك توك، ثم جلس بجوار السائق بينما ركب محسن ومعه زوجته وأخته، وأصوات كحته تتصاعد في الطريق ثم قال لضاحية: "حاسس بوجع في صدري" فترد: "سلامتك يا أخويا، تلاقيك خدت شوية هوا، ولا النوم تحت المروحة تعبك.. دا أنت من الشتا اللي فات ما كحتش كده".

هنا يقاطعها محسن: "بتقري عليا يا ولية.. هو حد هيجيب أجلي غيرك؟"، تعود الكحة وتقول ثريا: "اسكتي يا ضاحية، ما شفتيش جوزك كان امبارح مع واحدة راح يقابلها وقعد يحكيلي عليها اديله ساعتين لما تعب". عاد محسن يقاطع كحته: "يعني أزقك من التوك توك ارميكي في الترعة يا بهيمة أنتي". تضحك ثريا وتقول: "والله كان مع واحدة يابت.. فاكرة فاطنة بنت ابو عوف"، ترد ضاحية: "بس يا ثريا دلوقتي، أما نشوف أخوكي ماله. ماشي يا محسن، أما نشوف حكاية فاطنة دي بعدين يا محسن".

يصل التوك توك لطرف الكوبري الواصل بين ضفتي الترعة المقابلة لمنزل الدكتور عبد الله، ينزلون ويرحل التوك توك، وبمجرد عبورهم الكوبري، وبينما يسعل محسن، سقط أرضا. فزعت أخته وزوجته، ووقف خلفه محمد يسنده والتفوا حوله. حاولت ثريا مداعبته قائلة: "إيه الحكاية يا محسن؟ مش شوية كحة دول". صار محسن لا يستطيع الرد ويغيب في عالم آخر فاتحا عينيه. صاحت ضاحية في ابنها: "اجري نادي الدكتور يجي هنا"، يهرع محمد بينما استطاع محسن أن يفتح فمه قائلًا: "أشوفك على خير يا فاطنة". ثم يخمد صدره وسقطت رأسه للأبد وسط صراخ المرتين.

صباح اليوم التالي، وبينما كانت الشمس لا تزال تسطع من البلكونة، وتضفي بهجة على صالة منزل فاطمة التي كانت تجلس مع اختها سعاد "تقمع" البامية مفترشين الأرض، كان صوت أم كلثوم يدوي من الراديو "كانت الأيام في قلبي دموع بتجري وأنت تحلى لك دموعي وهي عمري". فيما أم فاطمة واقفة تسقي أوراق الرقاق بشوربة البط، ثم ترصهم في الصينية. ثم استدارت باتجاه باب المطبخ وصاحت: "ابعتي أحمد يجيب بيضتين يا سعاد بسرعة.. البيض كله خلصتوه ع الكيكة". أسرعت سعاد وذهبت للباب المفتوح وصاحت: "يا أحمااااد". 

هنا صاح عامل المسجد في الميكروفون "إنا لله وإنا إليه راجعون"، صاحت فاطمة في أختها: "بس يا سعاد أسمعي لما نشوف مين اللي مات"، يستكمل المنادي: "توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ محسن فتحي عبد الشافي الموظف في مدرسة عمر بن الخطاب الابتدائية.

صاحت سعاد: "ده محسن جارنا من الحارة القديمة"، قالت فاطمة وهي تسرح مع صوت المنادي: "محسن.. لسه صغير يا محسن.. لا إله إلا الله.. الله يرحمك.. لا إله إلا الله" بدا عليها التأثر وهي تنكس رأسها وبصرها لحلة البامية، فتقول أمها: "الواد محسن ابن الست بهيرة الخياطة.. ده لسه عياله صغار.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ده كان عيان ولا حادثة"، تقاطعها فاطمة: "مش واجب يا أمه نروح نعزي؟". فأكدت أمها: "واجب طبعا.. مهما كان دول كانوا جيرانا سنين.. عايزة تيجي معانا يعني؟"، أسرعت تقول: "طبعًا، وليه لأ.. فرصة أشوف الحارة، بقالي سنين ما رحتش هناك".

في مساء اليوم التالي، خرج الثلاثة متجهين للحارة القديمة التي تبعد عن مسكنهن بما يقارب نصف ساعة من السير، وما إن وصلن إلى البيت حتى يلتفت الجميع إليهن، خرجت ثريا من إحدى الغرف قائلة: "أهلًا يا فاطنة"، ثم تصيح: "يا ضاحية تعالي دي فاطنة هنا أهي.. يا مديحة، يا عائشة، يا وفاء، تعالو دي فاطنة اللي حكيت لكم عليها، ومحسن كان بيحكي عليها قبل ما يموت". وقفت فاطمة وأمها واختها يتبادلن النظرات في ذهول تام من استقبال النساء الغريب، وما أن أجلسوهن حتى قالت ثريا بينما تحدق ضاحية في فاطمة: "ازيك يا خالة.. شفتي يا خالة أخويا اللي ليَّ في الدنيا راح وبقيت مقطوعة خلاص. وآخر حاجة قالها يا حبيبي كان بيودع فاطنة وكان بيتكلم عنها".

قابلت أم فاطمة الكلام بتعجب وتنظر لابنتها ثم تعود لثريا قائلة: "والله زعلنا على محسن أوي يا بنتي. لسه لا راح ولا جه، بس ده قضاء ربنا، وربنا يصبركم. احنا عرفنا من الجامع والله، حتى بلغت خالد وطه وسبقونا على عزاء الرجالة". تقاطعها ضاحية: "متأخذيناش يا حاجة.. جوزي فضل يتكلم على مقابلته لفاطنة يوم السبت، وركوبه معاها عربية المركز، لحد ما وقع مننا، وفضل يكح، وروحه راحت ونفسه راح بالبطيء، وآخر كلمه قالها أشوفك على خير يا فاطنة كأنها كانت قدامه. وكل اللي بيسأل حصل إيه ثريا بتحكي له.. فالناس كانت عايزة تشوف مين فاطنة دي"، وبينما تستمع فاطمة إلى الحديث الدائر وهي في حالة من الصدمة وعاجزة عن الرد. صاحت أم فاطمة قائلة: "أيوة يا بنتي، بس إزاي؟! إذا كانت بنتي جوزها جايبها بعربيته لحد البيت من مصر إمبارح قبل ما نسمع الخبر، وما نزلتش من البيت إلا معانا النهاردة!"