يتابع يورج سورنسن Georg Sorensenأستاذ العلوم السياسية ونظم الحكم في جامعة آرهوس Aarhus Universityالدنماركية، في كتاب "إعادة النظر في النظام الدولي الجديد "Rethinking the New World Order، والذي نقله إلى العربية أسامة الغزولي، بقوله: ما تحولات القوة التى تميزت بها نهاية الحرب الباردة؟ تفكك الاتحاد السوفيتى، واحدة من القوتين العظميين خرجت من اللعبة مخلفة وراؤها بلدا يدعى روسيا القوية بترسانتها النووية.
ومن حيث القوة العسكرية فالولايات المتحدة كانت لاتزال أقوى بكثير من أى قوة أخرى، إذ إن حصتها تبلغ واحد وأربعين فى المائة من الإنفاق العسكرى العالمى. ولابد من أن نضيف إلى ذلك قدرتها على التلويح بالقوة العسكرية الرادعة وكفاءة قتالية لا تُبارَى. وفيما يتصل بالاقتصاد فالولايات المتحدة محتفظة بتفوق كبير على الصين من حيث نصيب الفرد من إجمالى الناتج العام، ومن حيث الابتكار وإنشاء المشروعات التجارية، فالتفوق الأمريكى أكثر إبهارًا، وتبلغ سيطرة الولايات المتحدة درجة من القوة تجعل من الممكن القول بأنها تضاهى الإمبراطورية الرومانية أو البريطانية، أو حتى تفوقهما.
لكن فكرة إمبراطورية أمريكية هى فكرة مضللة، لأن الإمبراطورية هى حالة سيطرة رسمية. تعنى الاستيلاء على أقاليم من قبل غرباء يتولون مقاليد السيطرة الرسمية. وليس هذا حال الولايات المتحدة اليوم. ولهذا فمن يتحدثون عن إمبراطورية أمريكية يعتمدون على حيل بلاغية كقولهم "إمبراطورية مخففة "، أو " إمبراطورية غير رسمية أو حتى "إمبراطورية ما بعد الإمبريالية".
ويتحدث الصينيون عن نظام دولى حالى يتألف من "قوة عظمى واحدة وقوى كبرى عديدة"، وهم محقون فى ذلك، خصوصا عند التركيز على القوة العسكرية، ولكن عند الحديث عن الاقتصاد، أو عن الموقع داخل المؤسسات الدولية، أو حتى عن حالة القيم الليبرالية، فإن موقع الولايات المتحدة كقوة عظمى يبدو أكثر التباسا. وبالتالى تتعلق المسألة التى تتطلب مزيدًا من التحليل بالقوة الفعلية وبطابع السلطة الأمريكية فى مختلف المجالات وبالنسبة إلى عديد من مجموعات الدول.
وهناك توجه قوى آخر فى النظام الدولى الحالى يجعل تفحص المسائل أكثر أهمية. ويتصل ذلك بتقاسم السلطة والنفوذ، بما فى ذلك القدرات الاقتصادية، بين كثير من أجزاء العالم المختلفة. وقد أفضى هذا التوجه إلى ظهور فكرة أقاليم العالم. ولاشك فى أقاليم بعينها فى عالمنا لقيت من الاهتمام ما يفوق غيرها فى السنوات الأخيرة، لأسباب ليس أقلها أهمية أنها تضم بلدانا على طريق التحديث مثل البريكس BRICS. لكن هناك أقاليم أخرى، بينها الشرق الأوسط، عُرفت بمشكلاتها، أكثر مما عرفت بالحلول، فهى مبتلاة بأشكال من العداوة، تجعل الأمن على قمة الأجندة.
لكن لا يصح التغاضى عن الأهمية الخاصة للأقاليم. وقد كانت الحرب الباردة غطاء حجب هذه الأهمية، من حيث إنها أخضعت الشؤون الإقليمية والمحلية لتأثير قوى مصدره المواجهة بين القوتين العظميين وأشكال العداء والتعاون المتولدة عنها.
يتابع يورج سورنسن Georg Sorensenحديثة بالقول، لسنا فى عالم الإمبراطورية الأمريكية، لكن تبقى الولايات المتحدة الدولة القائدة، من حيث القوة المادية. ولسنا فى عالم يقوم على أقاليم، لكننا مقبلون على عالم تتبعثر فيه القوة أكثر مما سبق، وهذا يلفت الأنظار إلى تحليل القوة يقيم توازنا بين "الإمبراطورية " من ناحية، و"الأقاليم" من ناحية أخرى.
ويطرح علينا سؤال، أين مكمن القوة فى النظام الدولى، وما تأثيرها فى الترتيبات الدولة، فى ظل الشروط الدولية الحالية؟ هذه مسألة يدور حولها الجدل، وقليلا ما يقع الاتفاق بشأنها. فالقوة تحتل موقعا مركزيا بين اهتمامات المعنيين بالشئون الدولية من أيام ميكيافيلى. فالتحليل الواقعى يقوم على افتراض أن النظام الدولى يتألف من دول ذات سيادة. والدول تسيطر على أدوات العنف، فهى تحدد قواعد اللعبة لجميع اللاعبين الآخرين وبينهم الشركات والأفراد والمنظمات. لا يسع أن يثق بعضها بنيات البعض الآخر، ولكى تدافع الدول عن نفسها فهى فى حاجة إلى القوة، وخاصة القوة العسكرية لكنها تحتاج أيضا إلى الحجم (السكان والإقليم)، إضافة إلى القدرات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها.
وهذا هو التفكير الذى يحكم الرؤية التى تعطى الأولية للدولة ذات السيادة وتركز على القدرات المادية باعتبارها المصدر الرئيس لقوة الدولة. فالدول هى الوحدات الأساسية التى يتألف منها النظام الدولى. وللقوة العسكرية للدول أهمية خاصة لأنها هى ما تلجأ الدوله إلى استخدامة حال نشوب صراع عنيف، لكن القوة العسكرية لابد لها من موارد قوة مادية أخرى أيضا، من بينها القدرة الإقتصادية. ووفقًا لهذه الرؤية تكون القوة المقتدرة هى دولة لديها "قدرة صناعية وعسكرية يُعتد بها" ويؤكد أحد الباحثين فى السياسة الدولية جون ميرشايمر على القوة العسكرية حين يدفع بأن "القوة الفعالة لدى الدولة تتحق بقواتها العسكرية.. لأن القوة هى المرجع النهائى فى السياسات الدولية".
وللحديث بقية.