ونأتى معا إلى ساحة محمد عبده ، الأستاذ الإمام ، المجدد الحقيقى ، والداعية إلى العلم ونبذ الخرافة ، والى العقل ورفض الجهل والجهالة . والحقيقة أن رحلة محمد عبده التجديدية قد بدأت قبل لقائه بالافغانى فهو ينشر فى الأهرام منذ عام 1876 مقالات توحى بنزعة تنويرية وتحررية . ويقدمه الأهرام لقرائه قائلاً "إنه العالم العلامة الأديب الشيخ محمد عبده أحد المجاورين بالأزهر ، والهدف من هذه المقالات هو بث الأفكار بين الناس لتكون سببا لتنوير البصيرة ، وتطهير السيرة وتحرك فيهم روح الغيرة" [الأهرام سبتمبر 1876] ثم يلتقى بالافغانى فيزداد قدره واستنارة وجرأة على التأويل ، فقال ذات يوم للافغانى "إننى أوتيت من لدنك حكمة اقلب بها القلوب وأعقل بها العقول" [السيد يوسف – رائد الاجتهاد والتجديد فى العصر الحديث ، الإمام محمد عبده – صـ103] ويقول رشيد رضا "إن اقتراب عبده من الافغانى قد أخرجه من خمول تصوفه وخمود أزهريته ، إلى ميادين الجهاد فى سبيل التجديد الدينى والإصلاح الاجتماعى المدنى ، فعانى فى سبيل ذلك فتن الأمراء المستبدين وجهالة حملة العمائم الجامدين" [رشيد رضا – تاريخ الأستاذ الإمام – المرجع السابق] . وقد تميز محمد عبده عن الافغانى بأن الأخير كانت أفكاره جميعا متعلقة بفكرة الجامعة الإسلامية وتوحيد المسلمين ، بينما عبده وجه دعوته بالأساس للتجديد الدينى كدعوة لتجديد مصر وتحديثها وتجديد عقول المصريين [السيد يوسف – المرجع السابق] ويؤكد محمد عبده نفسه هذا الفارق فيقول أن الافغانى "كان قادراً على النفع العظيم بالإفادة والتعليم ، لكنه وجه كل عنايته للسياسة فضاع استعداده هذا" [نصوص مختارة من كتيبات الإمام محمد عبده – صـ10] ويحدد د. عاطف العراقى معالم فكر محمد عبده قائلاً "إذا كان من الصعب أن نطلق على محمد عبده لفظة الفيلسوف بالمعنى الاصطلاحى الدقيق إلا أنه ترك لنا العديد من الآراء التى تجعله مجدداً من الطراز الأول ، ومفكراً لا تخلو كتاباته من الروح الفلسفية" [د. عاطف العراقى – العقل والتنوير فى الفكر العربى المعاصر ـ صـ136] والحقيقة أن الافغانى كان ثائراً ضد ظلم الحكام وسيطرة الاستعماريين ، أما محمد عبده فكان بالأساس مجددا دينيا وكانت "دعوته التجديدية معبرة عن ثورة من داخل التراث نفسه ، إنها إعادة بناء التراث بحيث يكون متفقا مع العصر" وكان يؤكد دوما "إن العيب ليس فى التراث ، ولكن العيب فى النظرة إلى التراث من خلال منظور تقليدى رجعى لا يتماشى مع العصر ، فهو لا يقف من التراث موقف المستسلم ولا موقف الرافض" [العراقى – صـ137] كذلك فإن محمد عبده قد خاض معركة الدفاع عن الإسلام فى مواجهة دعاوى كتاب غربيين مثل رينان وهاناتو تقول بأن الإسلام هو فى جوهره دين قعود وتخلف ، ومواجهة مزاعم اللورد كرومر المعتمد البريطانى والذى قال "إن الإسلام إذا لم يكن ميتا فإنه فى طريقه إلى الاحتضار اجتماعيا وسياسيا وأن تدهوره المتواصل لا يمكن إيقافه مهما أدخلت عليه من إصلاحات تحديثية لأن التدهور كامن فى أساس جوهره الاجتماعى ، وهو جوهر قائم على تخصيص دور متخلف للمرأة وعلى التغاضى عن نظام الرق وعلى جمود الشرع وقطعية النص . ومن ثم لا بديل عن التحديث الكامل بدون الإسلام"[Cromer,Lord – Modern Egypt (1908) p.134] وهكذا خاض محمد عبده وبشجاعة نادرة معركتين الأولى ضد الهجوم الغربى على الإسلام كعقيدة ، ومعركة أخرى أشد ضراوة ضد الشيوخ الرجعيين الذين رفضوا إعمال العقل وإعتمدوا على مجرد النقل ، وعلى النظر السلفى للتراث الدينى . وصاح محمد عبده فى شيوخ عصره "إذا تعارض النص مع العقل أخذنا بما دل عليه العقل" . وأكد على ضرورة حماية المسلمين من تسلط الفكر الرجعى قائلاً "لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله ، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسط أحد لا من سلف ولا من خلف" [الأعمال الكاملة – الجزء 3 – صـ582] .
.. ويمضى محمد عبده فى معركته التنويرية فى وجه مقاومة شرسة من شيوخ أزهريين اعتبروه مارقا وأصدروا ضده فتاوى وكتب وحذروا أتباعهم من اتباع ما يدعو إليه .