الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

150 شخصية روائية مصرية.. مصطفى بيومي يكتب: جمال الغيطاني..  حسن أنور من «وقائع حارة الزعفراني» «٢»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إنسان طيب مفرط الحساسية سريع التحول من الإسراف فى القسوة والغضب إلى التطرف فى التسامح والغفران

 

على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى أنجز مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء.. عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟ عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».

خلال عام 2019، نشرت «البوابة» فصولًا من هذه الدراسة القيمة، ونعيد نشرها لتكون شاهدًا على عصور زاخرة فى عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

 فى «وقائع حارة الزعفراني»، تضم الحارة نماذج إنسانية متنوعة، تعبر فى مجموعها عن طبيعة الحياة المصرية فى نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن العشرين، بعد فترة قصيرة من هزيمة يونيو ١٩٦٧، المحطة الفاصلة ونقطة التحول فى التاريخ المصرى المعاصر.

حسن أفندى أنور، الموظف الصغير متواضع المكانة، واحد من أبناء الحارة الأصلاء، فهو يولد فيها وينشأ ويترعرع. يرث عن أبيه نصف فدان فى القرية غير محددة الاسم، وقطعة أرض فى الحارة يبنى فوقها بيته، وينجب ابنيه حسان وسمير. تنبئ المؤشرات جميعا عن حياة تقليدية راكدة آسنة تخلو من الاضطراب والتوتر، بما يتوافق مع شخصية الرجل المسالم الذى يفخر دائما بأمرين: «أنه لم يدخل قسم بوليس طول حياته كشاك أو مشتك منه، وأنه لم يقترض، ولم يقرض».

إنسان طيب مفرط الحساسية، سريع التحول من الإسراف فى القسوة والغضب، إلى التطرف فى التسامح والغفران: «يذكر اسم شخص معين فى يوم واحد مرتين، يغضب عليه فى الدعاء الأول ثم يحدث أن يلتقى به، تزول العكارة من نفسه إزاء هذا الشخص فيدعو الله ألا يقبل دعاءه الأول».

الحالة الكلاسيكية للموظف

حسن أنور بمثابة الحالة الكلاسيكية للموظف المصرى الصغير فى مرحلة تاريخية سابقة، يمثل فيها عالم الموظفين ركنا مهما فى خريطة المجتمع. ينتمى إلى الفئة الأضأل شأنا فى هذا العالم متعدد الشرائح الطبقية، والسر كامن فى المؤهل المتوسط الذى يحمله ولا يؤهله للصعود والترقي. تحول الظروف الاقتصادية لأبيه دون الالتحاق بالمدرسة الثانوية والوصول إلى الجامعة: «أقنع والده بضرورة الالتحاق بمدرسة تجارية ثم يستكمل دراسته بعد تخرجه وتوظفه، لكن التآكل أدرك نواياه مع السنين».

مشاعر الندم لا تغادر حسن أفندى جراء العجز عن استكمال الدراسة الجامعية، بكل ما يترتب على ذلك من تعثر وظيفي، وتفوق الشباب الذين يباهون بشهاداتهم ويحظون بكراهية عميقة من الموظف الممرور المحبط: «إن أفسد خلق الله هم خريجو الجامعات، لا يفقهون شيئا، حامل الابتدائية القديمة متبحر فى العلوم أكثر من دكتور هذه الأيام».

يعانى حسن من عقدة الموظفين الجامعيين الشباب الذين يحولون دون تحقيق الأحلام المستحيلة التى تراوده، كأن ينفرد بغرفة مستقلة مزودة بجهاز تليفون، وفى هذا السياق يبدو منطقيا أن يراهن على ابنيه حسان وسمير ليظفر من خلالهما بكل ما يتطلع إليه من مظاهر التفوق والسيادة. يختار لحسان مهنة الطب المرموقة، وهو بعد طالب فى الثانوية العامة: «كثيرا ما يغمض عينيه على لافتة كبيرة تحمل بخط بارز اسم الدكتور حسان حسن أنور - دكتوراه فى الطب - زميل بكلية الدراسات الطبية بلندن. عندما يرى اسم ابنه معلقا هنا.. هنا فى ميدان الأزهار، سيعرف الراحة الحقيقية».

فى المقابل، لا يستقر على مهنة محددة لسمير، الأقل انضباطا والتزاما من أخيه الأكبر، لكنهما معا حصاد العمر والأمل فى مستقبل مشرق مغاير للماضى والحاضر، أما الزوجة فامرأة طيبة راضية مطيعة: «تبدى اهتماما به، تحنو عليه، تحرص على نظافته، وتغضب كطفلة إذا شمت رائحة دخان من فمه».

فلسفة حسن أفندى 

يمكن القول إن فلسفة حسن أفندى أنور تتجسد فى الكلمات التى يقولها لزميل العمل عبدالعظيم، وهو واحد من كتيبة حملة الشهادات المتوسطة: «أربعة لا تأمن لهم. المال ولو كثر، والحاكم ولو قرب منك، والمرأة ولو طالت عشرتها، والدهر ولو صفا».

لا شيء من أركان المقولة النظرية ينطبق على حسن، قليل المال البعيد عن السلطة الزاهد فى الجنس، أما عن صفاء الدهر فلا موضع له فى حياة حافلة بالمنغصات، وزادها أحلام اليقظة ومعانقة الخيال. كل ليلة، يعيد إنتاج أحداث يومه عبر ترجمتها إلى صياغة صحفية ومانشيتات مثيرة. يرى ما يريد أن يراه، ويتعايش من خلال هذا النمط التنفيسى مع الضغوط العاتية التى يواجهها فى العمل، ويصفى حساباته مع الخصوم والأعداء.

الملمح الغرائبى الأبرز فى شخصية حسن يتمثل فى الولع بقراءة الكتب العسكرية، وهى هواية تعود جذورها إلى زمن الحرب العالمية الثانية، حيث انحياز قطاع شعبى عريض إلى دول المحور، وإعجابهم غير المحدود بزعامة هتلر، الذى هو فى أذهانهم بطل شعبى خارق. حسن أفندى واحد من هؤلاء، لكنه يختلف عنهم فى استمرار الإعجاب الكامن بعد ربع قرن من سقوط ألمانيا النازية وزعيمها: «انحاز منذ البداية إلى هتلر، حصل على صورة كبيرة له، يبدو فيها أنيقا، يعقد يديه أمام صدره، احتفظ بها فى غرفة النوم، يثق أنه لم يمت، أين جثته إذن؟. لديه يقين خفى بمجيء هتلر إلى مصر، ربما يقيم فى إحدى المحافظات، بأحد ملاجئ العجزة، سيظهر فى الوقت المناسب ليفتح المخزن رقم ١٣ الذى يحوى آلات دمار مهولة، يقهر خصومه، يسود العالم».

هتلر، على نحو ما، هو «المهدى المنتظر» الذى يعيد التوازن المهتز ويحقق الانسجام المفقود فى حياة الموظف المأزوم الذى يتعذب بالقهر الوظيفى ويسكنه الخوف المزمن، ولا سلاح له إلا الخيال صانع الحياة الملونة البديلة.

مع سيطرة الشيخ عطية بطلسمه السحرى على مقدرات الحارة، يتحالف إدمان أحلام اليقظة مع التاريخ القديم الذى لا يتبخر، ويسقط حسن فى براثن الاضطراب النفسي، وصولا إلى محطة الجنون.

منذ البدء، يضيق ابنا حسن أنور بسلوك أبيهما. يستوعب الأكبر حسان نزعته الاستعراضية ويدرك أسبابها، أما المتمرد الساخط سمير فيرى والده «أشبه بالمهرج، خفيف الحركات. قال لأخيه إن والدهما يعرضهما كالقردة».

تعليمات الشيخ عطية

مدفوعا بالخوف واعتياد الطاعة العمياء، يلتزم حسن بتعليمات الشيخ عطية وأوامره ونواهيه، على الرغم من الشذوذ الذى تحفل به، ويرفض سمير الانصياع والخضوع: «بعينين فيهما قحة قال إنه لن ينام الساعة الثامنة ولن يخضع لخرافات».

يبدأ التدهور السريع مع تمرد سمير على سلطة الأب والشيخ معا، ولا يملك حسن أفندى ما يقاوم به طوفان الانهيار إلا الارتماء فى أحضان الخيال والاستعانة ببطله القديم هتلر. يقرأ واقعه البائس على ضوء تاريخ الزعيم وما يتعرض له من هزائم وانكسارات، وسرعان ما يتحول الاضطراب النفسى إلى مرض عقلى عضال لا شفاء منه. يشترى حلة عسكرية قديمة مهيبة من دكان «رأس الفجلة»، ويمنحه البائع عصا خشبية رأسها مغطى بمعدن أصفر كالذهب، ويتحول الموظف بعدها إلى جنرال خارج لتوه من متحف التاريخ.

العاديون الأسوياء من الناس قد يتعرضون لصدمة مماثلة ويتعافون منها بعد ساعات أو أيام، لكن الأمر عند حسن قديم يتجدد، ولا شيء يوقف هرولته السريعة نحو ضياع العقل والانفصال عن الواقع.

تحليل عميق للأحوال

«ملف خاص لتفصيل أحوال حسن أنور»، صفحات يقدم فيها الغيطانى تحليلا عميقا مثيرا للحالة المرضية التى تستفحل، وقوامها محتويات الصحيفة اليومية التى يصدرها حسن قبل نومه. عناوين صاخبة يتقمص الموظف المقهور من خلالها شخصية القائد العسكرى الفذ المحاصر بالأعداء والخونة، فى الحارة ومقر العمل والبيت. مقالات افتتاحية وتصريحات حماسية وحوارات عن المعارك، ومعانقة الجنون تتجلى فى مواقف عملية تنذر باقتراب النهاية المأسوية الكارثية: «انقطع عن الذهاب إلى المصلحة. انتهى زمن الارتجاف من سيد بك وخطب وده، يروح ويجيء داخل مسكنه، تقبع امرأته أقصى الصالة لا تتفوه بحرف».

يشكل حسن أفندى أنور جيشا وهميا من قادة عسكريين تاريخيين لا مشترك بينهم إلا الإنجازات التى يسجلها لهم التاريخ العسكرى فى صفحاته، من نيبال وجنكيزخان إلى رومل وجورنج مرورا بعنتر بن شداد وخالد بن الوليد ونابليون: «هاهو يجمعهم فى إطار واحد، يستطيع رؤية ملامحهم، يعرف ما يتميز به كل منهم، يعلم جيدا فى أى المجالات سيتم استغلال طاقات إبداعه، يرفع يده بالتحية حتى يتم مرورهم».

يتوحد حسن مع هتلر الذى يحل فيه، فهو المثل الأعلى والقدوة والبطل التاريخى الاستثنائى الذى يعشش فى أعماقه، ويبدو كأنه الملاذ الوحيد من مرارات الواقع الموجع.

فى لحظات الشجن وهيمنة الألم الذى لا يُطاق، يأبى حسن إلا أن يستدعى الزعيم ويحاكيه ويتمثل به، وتتراكم الخسائر فتكون السلوى فى تاريخ هتلر وصموده: «ماذا يساوى هذا لو قورن بما خسره هتلر؟. كيف تصرف عندما جاءته الجيوش الروسية من الشرق؟ والحلفاء من الغرب؟ ماذا فعل عندما اُحكم الحصار حول برلين؟ لم يفقد الأمل. لم ينهر. لم يرفع راية الاستسلام البيضاء».

هتلر حى لم يمت فى أعماق حسن أنور، وعودته هى الأمل الوحيد لتجاوز الانكسارات الموجعة التى تتوالى وتوحى باقتراب السقوط: «يوما ستنتهى غيبة هتلر، يظهر أعوانه المختفون فى مشارق الأرض ومغاربها، يعيد تشكيل فيالقه، يوجهها إلى الجهات الأربع الأصلية، يطوف الدنيا، سيعرف من مخابراته أسماء الذين آمنوا بعودته».

«غيبة» هتلر وليس «موته»، ومع عودته تتغير الخريطة ويظهر الأعوان ويُثاب حسن بإيمانه الذى لا يتزعزع.

الانفصال عن الواقع

يستدعى حسن أركان نظام هتلر ليكونوا قادته فى المعركة التى يديرها من شقته فى حارة الزعفراني، والجنرال هملر هو الأبرز لأنه يتولى قيادة المخابرات: «بعد سنوات البطالة القاسية التى عاناها منذ اختفاء هتلر، آمرا أيضا بإطلاق يده للبحث عن هتلر. بمجرد العثور عليه سيعينه مستشارا أعلى لشئون القوات».

ينفصل حسن أنور عن واقعه، وتستمر معارك الخيال الحافلة بما يمليه الاضطراب العقلى من قرارات وبيانات، ولا تتوقف الهزائم الواقعية على الصعيد الوظيفى وصولا إلى الفصل جراء الانقطاع عن العمل. لا يملك الابن حسان، الذى لا يتخلى عن أبيه فى محنته، إلا أن يرصد التداعيات باكيا، ويبذل جهودا فاشلة للحيلولة دون اعتداءات صبيان الحارة الذين يتسللون إلى سطح البيت المواجه ويقذفون الأب بالحجارة.

من شرفة الشقة يخوض حسن معاركه، ولا حيلة للزوجة التعيسة والابن فى مواجهة التحول المروع المدمر: «لم توفق جهود حسان ومساعى والدته فى منع الصبية من التحرش بحسن أنور، وقفته اليومية تغريهم بمناوشته، خاصة عندما يعلو زعيقه مخاطبا القادة الذين أبدوا إهمالا. بالأمس، راقبه بعض الأولاد من فوق السطح المقابل. قذفه أحدهم بحجر أصابه فى كتفه. علا صراخه. أين هملر؟.. أين هملر؟ إنه لايخشى محاولات الاغتيال.. يجب أن يظل قدوة لرجاله، أقل هزة تبدو عليه ستنعكس بشكل مباشر على جميع المحاربين فى كافة ميادين الحرب، الصور الملتقطة له التى تتناقلها وكالات الأنباء والصحف يجب أن تعبر عن التماسك والثبات مهما اشتدت الظروف».

الحالة ميئوس من شفائها، ويبدع جمال الغيطانى فى تشكيل المشهد الأخير، وفيه يتجه الأفندى الجنرال بثيابه العسكرية المضحكة إلى مقر عمله الوظيفى ليعلن الاستسلام، ويُقاد من هناك إلى قسم الشرطة حيث يصفعه المخبرون على قفاه، ويرد الجنرال على الإهانات بقوله: «فيلد مارشال متقاعد، وقائد أعلى القوات المتحالفة ضد الظلم، حسن أنور».

حسن أفندى أنور موظف صغير ومواطن صالح مسالم لا يأمل إلا فى حياة هادئة، يحقق فيها أحلامه الصغيرة المشروعة وينجز ابناه ما كان يتطلع إليه. حصولهما على شهادة جامعية تمهد لوظيفة مرموقة غاية ما يتمناه، ولا ضير عندئذ من بعض أحلام اليقظة التى تحلق بعيدا ولا تؤذى أحدًا.

رجل طيب القلب، سريع الغضب والرضا، يحتفظ فى غرفة تذكاراته المغلقة بمحبة لا تنتهى للزعيم الألمانى النازى هتلر، وولع بالتاريخ العسكري، وزاده الخيال الخصيب الذى يغذى أحلام ما قبل النوم التى لا تنتهى ولا تتوقف.

ملايين المصريين يشبهونه ولا يُقال إنهم فاقدو العقل مصابون بالجنون، ونقطة التحول تكمن فى هيمنة الشيخ عطية وطلسمه على الحارة. عندئذ يطفو المخبوء وتنفجر المرارات وتتبخر الأحلام الصغيرة فإذا بها كومة من الأشلاء والأطلال.

لا يعرف حسن أفندى أن ابنه الأكبر حسان يتجه لاعتناق الأفكار اليسارية عبر علاقته مع الأسطى الشيوعى رمانة، ولا يعرف أيضا أن ابنه الأصغر سمير غارق فى حياة الشذوذ الجنسي، ولا يريد أن يعرف نهاية هتلر وغيابه بالموت والهزيمة قبل ربع قرن، لكنه يحس بالضرورة أن زلزالا عنيفا يطيح بكل ما فى وجوده الهش من استقرار وهمي، كأنه مصر بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، تتهيأ للانتقال من التماسك الشكلى إلى السقوط المدوي.

حسن أنور شخصية ثرية غير تقليدية تحمل رائحة الأساطير التى تمشى على قدمين مرهقتين، وتنتمى فى الوقت نفسه إلى الواقع المزدحم بمن يشبهونه فى النصف الأول من حياته، حيث تتوارى أعراض الجنون خلف قشرة العقل الزائف. ما أسهل الوصول إلى نهاية كنهايته، حال وجود المفجر الذى يهدم أسوار التماسك الشكلى الهش.