هل من الممكن ألا يموت الإنسان؟.. نعم من الممكن ألا يموت إنسان؟ فما هي الحياة؟ إنها.. فكرة.. ومبدأ.. وأثر.. ذلك الثالوث شكل خُطى طفل أفريقي صغير في مدينة ترانسكاي بجنوب أفريقيا.
كان كف هذا الصبي لا يعرف إلا السلام، يحفظ أقوال المهاتما غاندي ويكتبها هناك في الغابات على جذور الشجر العتيق: "يجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية، فإن الإنسانية محيط، وإذا كانت بضع قطرات من المحيط قذرة فلا يصبح المحيط بأكمله قذرًا".. تعلم لكي تكون له أقواله الخاصة وسيرته فقد أدرك الشاب الذي يدرس المحاماة أنه لا نجاة إلا بتطبيق القانون على الجميع سواسية دون تمييز عنصري لدين أو لون أو نوع.
لا أعرف سر السجن في الحكايات.. في القصص التي تبقى وتعيش.. وكأنه خلوة أو عزلة تٌفرض جبرًا لاختمار حلم أو لفكرة أو لتمحيص واكتساب قوة.. ثمة أمر ما في وجود "السجن" في حكايات هؤلاء الذين لا يموتون.
سجنوا مانديلا 27 عاما خلف القضبان، بحكم عنصري مدى الحياة، لكن روحه كانت طليقة وابتسامته تخرج من نوافذ السجن الضيقة تنشر عطرا للحرية على ثرى أفريقيا، لم يكن يُعقل أن هذا البطل المٌكبل خلف الأسوار دون سلاح وبجسد خائر لكن بروح وثابة استطاع أن يكون "مانديلا" أيقونة للحرية.. آمن بالمستحيل وحققه: "غالبًا ما يبدو الأمر مستحيلًا إلى أن يتحقق".
"مانديلا" الذي سُجن بتهمة التخريب كان أبعد شخصًا عنها.. إنما خُلق مثله ليكون رسول بناء وتعمير لا معول هدم وتخريب، كان فقط يطلب حقه وحق أبناء بلده وكل المحرومين في العالم.. كان يخاطب العالم بقلبه ويطلب قدرًا من الإنصاف وتخطي النظر إلى الوجوه والتمعن في القلوب والأرواح..
كذلك "مانديلا" لا يمكن أن تصنفه حسب الدين ولا اللغة ولا حتى قبليًا.. لا يُمكنك إلا أن تتخيله سوى فكرة لها أوابد لا يمكن تقييدها.. راعي أغنام ليس له بيت فأينما حل الأمان نام ونشر السلام على رعيته، أظنه جاب جميع السجون ففي قصة حياته أسماء كثيرة وعناوين لقضاة وضباط وأعداء لكن لا اسم دام ولا حروف ظلت كٌلها مٌحيت من سجلات التاريخ وحده اسم "مانديلا" الذي يتهجاه الأطفال الصغار في كل مكان في العالم.
راعي الغنم الذي أصبح بطلًا ورئيسًا وأصبحت كلماته نبراسًا: "ليس حرًا من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة".. لا يوجد إنسان ولد يكره إنسان آخر بسسب لون بشرته أو اصله، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية، إذًا بإمكاننا تعليمهم الحب".
سئل أحد المفكرين عن دين "مانديلا" فكان الجواب إنه "الإنسانية".. الدين الإنسان.. هذا هو المعنى الذي عثر عليه "مانديلا صغيرا" وظل 9 عقود يسعى لتحقيقه.. لشرحه وتوضيحه.. للدعوة له..
لم يترافع مانديلا عن نفسه أمام قاضي محاكمته، لم يتحدث كمحام مع أنه درس القانون وحفظه، لكنه تحدث كنبي لعصره.. كإنسان: «لقد حاربت ضد الهيمنة البيضاء، وحاربت ضد الهيمنة السوداء.. لقد أحببت المثل الأعلى لمجتمع ديمقراطي وحر يعيش فيه جميع الأشخاص معًا في وئام وتكافؤ في الفرص.. إنه نموذج أتمنى أن أعيش من أجله وأحققه. وإذا لزم الأمر، فأنا مستعد للموت لأجله".
"مانديلا" لم يفقد حلمه ولا ابتسامته في السجن، خرج الكهل شابًا فتي العزيمة والرأي وقوي الجأش:"حان وقت اندمال الجراح وقت ردم الفجوة التي تفصل بيننا".
مانديلا الذي لا يموت
الآن أقول لك لماذا اخترت هذا العنوان؟ وسأتركك تبحث أنت في سيرة أيقونة السلام.. اقرأ عن هؤلاء الذين لا يموتون كما يجب أن تقرأ.. "نعتقد أن الرئيس الراحل نيلسون مانديلا سيبتسم في قبره لأنه من المدافعين عن اتفاقية الإبادة الجماعية".. هكذا كان تعليق وزير العدل الجنوب أفريقي، على الحكم الذي أصدرت محكمة العدل الدولية في الدعوى التي أقامتها جوهانسبرج، لصالح الدولة الفلسطينية وبضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أترى لقد عاش مانديلا كروح في أجساد أحفاده.. لقد نجح في تحقيق رسالته وحلمه، لقد بات له أحفاد يحفظون أقواله كما حفظ هو أقوال غاندي.. باتوا يسيرون على نهجه.. باتوا ينادون باسم الإنسانية.. يقاتلون من أجل السلام.. يتخذون من ابتسامة أيقونة أفريقيا عنوان.. عاش مانديلا ومات سجانوه.. عاشت الفكرة وتلاشت العنصرية.. عاشت الإنسانية.