اليوم.. كنت أنوي إفراغ رأسي من كل أمر، كمن يفرغ قبو من محتوياته.. أحتاج بعض الوقت للنوم بلا توقيت.. وللضحك بلا أسباب.. لنفث دٌخان السجائر مطفأة.. حتى أُفرق بين حريقها وحريق الركام الذي لا معنى له في قلبي.. للجلوس في حجرة بلا سقف.. ومصافحة أيادٍ تٌدرك قيمة العناق.. للتحدث لمجذوب والحديث كمجذوب دون أن يضع لنا أحدًا علامات استفهام في نهاية الجُمل؟.. أود أن أعيش ليوم بلا قيود.. بلا حسابات للغد ولوم على الأمس.
أود أن أنسى أسماء من أعرفهم لساعات.. أو أن أعرفهم ليومٍ كأني ما كنت أعرفهم!.. لا أُشجع فريق.. ولا أُتابع حرب.. ألا يكون لي وطن ولا اسم ولا عنوان.. ولا ارتباط بأرض ولا سماء..
قالت لي روحي: "يا هذا.. السفينة آمنة على الشاطئ لكنها ليست من أجل ذلك صُنعت".. قلت لها هذا ليس ضجرًا.. ولكني ما كنت طفلًا.. وأردت أن أكون طفلًا ولو ليوم.. "فلعبنا كان جد".. وبينما كٌنا نٌعد لم نستطع التحكم في الأرقام فقفز بنا العُمر.
قالت: إذا كانت الريح تتجه بعكس أشرعتك.. فخفض أشرعتك.. ثم انتظر هدوء الريح وأبحر من جديد.. قوي أنت متى مارست الاستغناء بإرادتك وترفعت عن المزاحمة على موائد الفتات وتحاشيت مجالس النخاسة.
أنا لست في مزاج فلسفي اليوم يا روحي.. فامدحيني!..
- لم تفعل شئ غير عادي حتى أمدحك.. فالمدح غير المستحق سخرية خفية..
إذاَ هي نفسي التي ستُحقق مطلبي.. امدحيني يا نفسي.. آهٍ يالا جمالك يا صاحبي.. أنت أجمل من نرسيس.
أرأيتي يا روحي.. كنت بحاجة لذلك.
لكنك يا صاحب النفس لا تعرف من نرسيس.. ولو عرفته لوجدت تحقيق مقولتي.. ولعرفت أن مدح النفس ذم.
نرسيس ذلك الفتى الجميل الذي فتن بصورته، فكان يذهب إلى البحيرة، ليتأمل جمال وجهه حتى سقط ذات يوم ومات غرقًا، وفي المكان الذي مات فيه نبتت زهرة سُميت نرسيس ثم نرجس!.
ما علاقة ذلك بما قالت نفسي يا روحي!
لدى موت نرسيس جاءت الأورياديات إلى البحيرة فوجدن مياهها العذبة تحولت لنهر من الدموع.. فقالت ربات الغابات للبحيرة: أكل هذا حزنًا على نرسيس!.. فردت عليهن البحيرة: بل حزن على صورتي التي لن أراها بعد اليوم.. فكنت أرى انعكاس جمالي في عينيه.
يا صاحب النفس..
لماذا تُنادينني يا صاحب النفس وأنت مني.. لماذا لا تقولي، يا صاحب الروح.. أو يا صاحب الروح والنفس.. ألسنا نحن الثلاثة أنا!
- لا يا صاحب النفس.. أنت الصبي ونفسك الشمعة وأنا النار..
- لا.. أنا يُقلقني لعب الأولاد بالنار.
- وهذا ما كان يُقلق صاحب القصة الذي قابل صبي يحمل شمعة، فبادره بالسؤال: هل أضأت هذه الشمعة بنفسك؟
-- فرد الصبي: نعم.
-- تابعت بإلحاح: اسمع أيها الصبي في لحظة من اللحظات كانت هذه الشمعة مطفأة، أتستطيع أن تُخبرني من أين جاءت النار التي تُشعلها؟
- ضحك الصبي، وأطفأ الشمعة وقال: أتستطيع أنت يا سيدي أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة هنا؟.
فيا صاحب النفس ليس بإمكانك إطفائها كما لم يكن بإمكانك إشعالها ستتوهج النار يا صاحب النفس عندما تحتاج إليها..