العلم قوة هائلة يمكن توظيفها لخدمة البشر، كما يمكن - وبالقدر نفسه - توجيهها لتدمير العالَم والإنسان، تمامًا كعود الثقاب؛ فى وسعنا أن نضىء به شمعة تنير لنا الطريق، وفى مقدورنا أن نشعل به حريقًا يدمر حياتنا. العلم إذن ليس خيرًا أو شرًا فى ذاته. ومن هنا فهو أحوج ما يكون إلى قيم إنسانية رفيعة تقوده نحو خير الإنسان ورفاهيته. ففى غياب قيم إنسانية رفيعة يندثر الإنسان والأفكار والعلم جميعًا.
من هنا تثار مشكلة «مسئولية العالِم» فى العصر الحاضر. ذلك لأن العالِم كان، تقليديًا، يقوم بالبحث النظرى أو التطبيقى وليس فى ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدا له. ولكن الوعى المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التى يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية فى هذا العصر، جعل من الضرورى أن تضاف إلى أعباء العالِم مهمة أخرى، هى أن «يفكر» فى تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلًا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.
ولقد تفاوتت الآراء حول مشكلة «مسئولية العالِم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالِم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود. وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد فى عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره. ولكل من الفريقين، وكذلك لمن يقفون موقفًا وسطًا بينهما، حججه التى يدعم بها موقفه. ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالِم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالِمًا كبيرًا يخرج من إطار عمله العلمى الخالص لكى ينبه الرأى العام إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجي. ولكن المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة.
توجد حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء فى اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع، لا بد أن يكون خيرًا على الدوام. وهناك دول تولى علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها. فالولايات المتحدة الامريكية مثلًا كانت أول دولة استحدثت وظيفة مستشار علمى للرئيس، كما أنها تقوم بتعيين ملحق علمى للعديد من المهام الدبلوماسية حول العالَم، فضلًا عن لجنة المستشارين الخاصة بالرئيس والتى تضم نخبة من كبار العلماء فى كافة التخصصات من داخل الحكومة وخارجها. ومن الملاحظ أن الغالبية العظمى من دول العالم أصبحت تحذو حذو الولايات المتحدة فى هذا الشأن.
ويمكن تعريف «السياسة» بأنها كافة الجهود المبذولة التى تستهدف المشاركة فى السلطة أو التأثير فى توزيعها. وهكذا؛ فإن «السياسي» هو كل إنسان يمارس العمل العام سعيًا للوصول إلى السلطة، إما لأنه ينظر إليها بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى مثالية أو أنانية، أو لأنه يريدها لذاتها على سبيل الاستمتاع. أما «الدولة» فمن الممكن النظر إليها بوصفها صاحبة الحق الحصرى والمشروع فى ممارسة السيطرة على بقعة معينة، والذى يقوم بذلك، سواء أكان فردًا أم جماعة هو السياسي. ومن هنا فإن محاولات السياسيين لإرغام العلماء من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، هى محاولات لا تنقطع. وليس أدل على ذلك من التسابق العلمى خلال الحرب العالمية الثانية لإنتاج القنبلة الذرية.
رغم أن البعض يرى أن الاشتغال بالسياسة، يتعارض مع نزاهة رجل العلم، ويستنزف جهدًا ينبغى أن ينصرف إلى ممارسة عمله العلمي. فإننا نتفق مع الدكتور فؤاد زكريا فى أنه من الأفضل أن يكون العالِم – بجانب عمله العلمى - ذا وعى سياسى فى الوقت نفسه. وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمى الشاق، وانهماكهم فى كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرتهم بحيث تتسع لمشاكل العالَم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان فى المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التى يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمى إلى الحد الذى يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المحيط به. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها فى الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان، إذ إن العمل العلمى يزداد تعقيدًا على الدوام، ومن الطبيعى أن يكون فى المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالِم بما فيه الكفاية. ومع ذلك كله؛ فإن العالِم فى عصرنا الحاضر ينبغى أن يكون لديه حد أدنى من الوعى بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضى ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم، من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرًا محدودًا، إلى نشاط مصيرى يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية، يكون من الطبيعى أن تتغير نظرة المشتغل به، من الإطار المهنى الضيق، إلى الميدان الإنسانى الشامل. (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، عالم المعرفة، العدد الثالث، الكويت، ١٩٧٨، ص ٣٠٨).
يبقى من الثابت أن توجيه العلم نحو خدمة الأغراض العسكرية وبالصورة الصريحة والمباشرة التى يتسم بها هذا الوضع خلال المرحلة المعاصرة، لم يعد يترك أى مجال للحديث عن حياد العلم واستقلاله عما يدور فى ساحة الصراعات الإيديولوجية. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأنه مهما أمعن رجال العلم فى تأكيد حرصهم على تحصين أبحاثهم من شبهة التأثر بمدخلات الخيار الإيديولوجي؛ فإن هذا الخيار أصبح يفرض نفسه كإطار يحدد للبحث العلمى سقف إمكاناته وسلم أولوياته، وهو ما يمكن تتبع تجلياته الملموسة من خلال رصد الترابطات الوثيقة التى أصبحت تنظم العلاقة بين التجمعات العلمية وبين أجهزة ومؤسسات السلطة السياسية.
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس.
آراء حرة
المسئولية الأخلاقية للعالِم
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق